بعد مجيء الدين الإسلامي باتت الحنفية تطلق على كل من أختنن وحج لبيت الله الحرام، كما تطلق على كل من أمتنع على تناول اللحوم التي ذبحها المشركين، إذ أن الحنيفية لغة تعني أعوجاج وميل، واصطلاحاً تعني البعد عن عبادة الأصنام كما حرمها على نفسه إبراهيم. من هو امام الحنفاء الموحدين سيدنا إبراهيم هو إمام الموحدين وهو أول من لقب بالحنيفة المسلم، حيث إن الله تعالى هداه للتفكير في الوحدانية، فلم يقبل عقل سيدنا إبراهيم المنير وجود آله غير الله عز وجل ولا أن يسجد لصنم كما يفعل أهله والمحيطين به، فكان في زمان سيدنا إبراهيم عليه السلام يصنعوا الأصنام من الحجارة ثم يعبدونها ويجعلوها آلهة، فلم يشاركهم في هذه العبادة إبراهيم، بل فكر واستخدم عقله وفطرته بعدم قبول هذه الوثنية والجهل. فكان سيدنا إبراهيم يتدبر في خلق الأرض والسماء وتعاقب الليل والنهار حتى هداه الله تعالى لأن هناك خالق عظيم خلق كل شيء ودبر أمره، كما أن الله تعالى من على سيدنا إبراهيم بالعقل والحكمة فجعله يقف أمام قومه يهديهم لعبادة الله القهار حنيف عن دينهم وأصنامهم التي صنعوها من الحجارة، ولكنه لقي منهم العذاب والحرق بالنار، حتى أبيه لم يرحمه ولم يرفق به، ولكن الله خير وكيلنه فأعانه، وأمر النار تكون عليه برداً وسلام، ليكون أبو الأنبياء وإمام الحنفاء، وخير نبي لقومه، يؤمن بالله الواحد القهار.
[1] - "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، للعلامة عبدالرحمن بن ناصر السعدي (المتوفى: 1376هـ)، الناشر: مؤسسة الرسالة، الجزء (1: 282). [2] - انظر: "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، لعبدالرحمن بن ناصر السعدي (المتوفى: 1376هـ)، الناشر: مؤسَّسة الرسالة (1: 137).
• وهو الدين الذي لا يقبل الله مِن أحد دينًا سواه؛ كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]. 2- الإسلام بمعناه الخاص هو الشَّريعة التي جاء بها سيدنا محمد - صلى الله عليه وسلم - خاتم النبيين والمرسلين فنسخَت شَريعتُه كلَّ الشرائع، وختم به - صلى الله عليه وسلم - الرسالة والنبوَّة؛ قال تعالى: ﴿ ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الجاثية: 18]، وبهذا أصبحت شريعة الإسلام لا تَقتصِر على جنس أو قوم، بل هي للناس والأمم كافة، وهي بهذا شريعة عالمية كاملة؛ ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ ﴾ [سبأ: 28]. 3- الإسلام هو دِين الفِطرَة والدِّين الذي ارتضاه الله لعباده ولا يقبل غيره؛ لأنه ناسخ لما قبله من الأديان ومُهيمِن عليها؛ قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [آل عمران: 85]؛ قال السعدي - رحمه الله [2] -: "أي: مَن يَدين لله بغير دين الإسلام الذي ارتضاه الله لعِباده، فعمَلُه مردود غير مقبول؛ لأن دين الإسلام هو المتضمِّن للاستِسلام لله، إخلاصًا وانقيادًا لرسلِه؛ فما لم يأتِ به العبد، لم يأتِ بسبب النَّجاة من عذاب الله والفوز بثوابه، وكلُّ دِين سواه فباطل" اهـ.
ولما حاول أهل الكتاب الانتساب للخليل عليه السلام نفى الله تعالى ذلك، وبين سبحانه أن اتباعه هم من كانوا على ملته الحنيفية، وهم المسلمون فقط { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران: 67 - 68]. الحنيفية ملة ابراهيم عسيري. نعم.. المسلمون هم أولى الناس بالخليل عليه السلام، وأولاهم بموسى وعيسى وبسائر الرسل عليهم السلام؛ لأنهم تمسكوا بالحنيفية التي بلغها جميع الرسل، ولم يحيدوا عنها إلى الشرك والضلال، ولم يغيروها بإفك وإثم وافتراء، بل لزموها والتزموا بها، ودعوا الناس إليها، وتواصوا فيما بينهم بها، وصبروا على الأذى فيها؛ فلهم النصر في الدنيا ، والفوز الأكبر في الآخرة { وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا} [ النساء: 125]. وأقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم... الخطبة الثانية الحمد لله حمدا طيبا كثيرا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه ومن اهتدى بهداهم إلى يوم الدين.
ذكرت ملة إبراهيم حنيفاً مسلم في العديد من المواضع القرآن الكريم تكريما له ولإيمانه بالله ولشدة ما تحمله من قومه، حيث ذكر في سورة المائدة وفي سورة النساء مرتين وفي سورة آل عمران، وفي سورة آل عمران وفي الحج والنحل في سورة يوسف مرتين وفي الأنعام والمائدة ويونس وغيرها من السور المباركة الكريمة [7]. الحنيفية هي ملة إبراهيم عليه السلام الحنيفية هي ملة إبراهيم عليه السلام، حيث كان حنيفاً مسلم، كما أن الله تعالى أمر كل الناس بأن يكونوا حنفاء مسلمين على ملة إبراهيم عليه السلام، إذ يقولوا الله عز وجل في كتابه العزيز في سورة آل عمران آية65 "يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ. هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ. الحنيفية ملة ابراهيم مكتوبة. مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ. إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ "، والحنيف هو المسلم الذي يعدل عن الشرك والكفر، ولا يرضى به، بل يعبد الله عز وجل منفردا ولا يشرك بعبادته أحد، كما أن الحنيف هو من يتبع تعاليم الدين الإسلامي ويتسم بالسماحة والعفة [2] [3] [4].
المعنى الاصطلاحي: إخلاص العبادة لله تعالى والميل عن عبادة الأوثان.
وعندما يقول الحق عن إبراهيم: { وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِين} فهل أهل الكتاب مشركون؟ نعم؛ لأنهم حين يؤمنون بالبنوة لعزير، ويؤمنون بالنبوة لعيسى فهذا إشراك بالله، وأيضا كان العرب عبدة الأصنام يقولون: إنهم على ملة إبراهيم؛ لأن شعائر الحج جاء بها إبراهيم عليه السلام، ولهذا ينزه الحق سبحانه سيدنا إبراهيم عن ذلك، ويقول: { قُلْ صَدَقَ ٱللَّهُ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ} وذلك يدل على أن ملة إبراهيم وما جاء به موافقة لملة محمد صلى الله عليه وسلم وما جاء به، وإجابة لدعوة إبراهيم عليه السلام. ثم يقول الحق سبحانه: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ}