فقال له قومه: إنما تدعو علينا، فقال: هذا شيء لا أملكه، إلا أنه دعا ألا يدخل موسى المدينة فوقعوا في التيه, فقال موسى: اللهم كما سمعت دعاءه علي فاسمع دعائي عليه فدعا الله أن ينزع منه الاسم الأعظم, فنزع منه واندلع لسانه فوقع على صدره. فقال لقومه: قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة, فلم يبق إلا المكر والحيلة, جملوا النساء وأعطوهن السلع، وأرسلوهن في المعسكر للبيع, ومروهن أن لا تمنع امرأة نفسها ممن أرادها, فإنه إن زنى رجل منهم كفيتموهم! ففعلوا ذلك فوقع رجل منهم على امرأة فأرسل الله تعالى الطاعون على بني إسرائيل حينئذ, فهلك منهم سبعون ألفا في ساعة واحدة. وفيه نزلت الآية: "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها". وقوله: "فانسلخ منها"، أي خرج من العلم بها "فأتبعه الشيطان"، أي أدركه "فكان من الغاوين"، يعني الضالين. وقوله تعالى: "ولو شئنا لرفعناه بها "، و المعنى: ولو شئنا لرفعنا عنه الكفر بآياتنا. "ولكنه أخلد إلى الأرض"، أي ركن إلى الدنيا وسكن "واتبع هواه" أي انقاد إلى ما دعاه إليه الهوى. وهذه الآية من أشد الآيات على العلماء إذا مالوا عن العلم إلى الهوى. وهذه الآية من أشد الآيات على العلماء إذا مالوا عن العلم إلى الهوى.
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) قال عبد الرزاق ، عن سفيان الثوري ، عن الأعمش ومنصور ، عن أبي الضحى ، عن مسروق ، عن عبد الله بن مسعود ، رضي الله عنه ، في قوله تعالى: ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها [ فأتبعه]) الآية ، قال: هو رجل من بني إسرائيل ، يقال له: بلعم بن أبر. وكذا رواه شعبة وغير واحد ، عن منصور ، به. وقال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما] هو صيفي بن الراهب. قال قتادة: وقال كعب: كان رجلا من أهل البلقاء ، وكان يعلم الاسم الأكبر ، وكان مقيما ببيت المقدس مع الجبارين. وقال العوفي ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما] هو رجل من أهل اليمن ، يقال له: بلعم ، آتاه الله آياته فتركها. وقال مالك بن دينار: كان من علماء بني إسرائيل ، وكان مجاب الدعوة ، يقدمونه في الشدائد ، بعثه نبي الله موسى إلى ملك مدين يدعوه إلى الله ، فأقطعه وأعطاه ، فتبع دينه وترك دين موسى ، عليه السلام. وقال سفيان بن عيينة ، عن حصين ، عن عمران بن الحارث ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما] هو بلعم بن باعر.
فمن هنالك تعطي بنو إسرائيل ولد فنحاص من كل ذبيحة ذبحوها القبة والذراع واللحي - لاعتماده بالحربة على خاصرته ، وأخذه إياها بذراعه ، وإسناده إياها إلى لحييه - والبكر من كل أموالهم وأنفسهم; لأنه كان بكر أبيه العيزار. ففي بلعام بن باعوراء أنزل الله: ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها [ فأتبعه الشيطان]) - إلى قوله: ( لعلهم يتفكرون) وقوله تعالى: ( فمثله كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث) اختلف المفسرون في معناه فأما على سياق ابن إسحاق ، عن سالم بن أبي النضر: أن بلعام اندلع لسانه على صدره - فتشبيهه بالكلب في لهثه في كلتا حالتيه إن زجر وإن ترك. وقيل: معناه: فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه ، وعدم انتفاعه بالدعاء إلى الإيمان وعدم الدعاء ، كالكلب في لهثه في حالتيه ، إن حملت عليه وإن تركته ، هو يلهث في الحالين ، فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدعوة إلى الإيمان ولا عدمه; كما قال تعالى: ( سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون) [ البقرة: 6] ، ( استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم) [ التوبة: 80] ونحو ذلك. وأما المشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة ، فإنما هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل ، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف.
وكذا قال مجاهد وعكرمة. وقال ابن جرير: حدثني الحارث ، حدثنا عبد العزيز ، حدثنا إسرائيل ، عن مغيرة ، عن مجاهد ، عن ابن عباس [ رضي الله عنهما] قال: هو بلعام - وقالت ثقيف: هو أمية بن أبي الصلت. وقال شعبة ، عن يعلى بن عطاء ، عن نافع بن عاصم ، عن عبد الله بن عمرو [ رضي الله عنهما] في قوله: ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه [ آياتنا]) قال: هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت. وقد روي من غير وجه ، عنه وهو صحيح إليه ، وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه ، فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة ، ولكنه لم ينتفع بعلمه ، فإنه أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته ، وظهرت لكل من له بصيرة ، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه ، وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم ، ورثى أهل بدر من المشركين بمرثاة بليغة ، قبحه الله [ تعالى] وقد جاء في بعض الأحاديث: " أنه ممن آمن لسانه ، ولم يؤمن قلبه "; فإن له أشعارا ربانية وحكما وفصاحة ، ولكنه لم يشرح الله صدره للإسلام. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان عن أبي سعيد الأعور ، عن عكرمة ، عن ابن عباس في قوله: ( واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها) قال: هو رجل أعطي ثلاث دعوات يستجاب له فيهن ، وكانت له امرأة له منها ولد ، فقالت: اجعل لي منها واحدة.