[ ص: 305] حدثنا ابن حميد قال: ثنا مهران ، عن سفيان ( ولا تجسسوا) قال: البحث. حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله ( يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا) قال: حتى أنظر في ذلك وأسأل عنه ، حتى أعرف حق هو ، أم باطل ؟ قال: فسماه الله تجسسا ، قال: يتجسس كما يتجسس الكلاب ، وقرأ قول الله ( ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا) وقوله ( ولا يغتب بعضكم بعضا) يقول: ولا يقل بعضكم في بعض بظهر الغيب ما يكره المقول فيه ذلك أن يقال له في وجهه. وبنحو الذي قلنا في ذلك جاء الأثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقال أهل التأويل. ذكر من قال ذلك ، والأثر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: حدثني يزيد بن مخلد الواسطي قال: ثنا خالد بن عبد الله الطحان ، عن عبد الرحمن بن إسحاق ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة قال: " سئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الغيبة ، فقال: هو أن تقول لأخيك ما فيه ، فإن كنت صادقا فقد اغتبته ، وإن كنت كاذبا فقد بهته ". حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع قال: ثنا بشر بن المفضل قال: ثنا عبد الرحمن بن إسحاق ، عن العلاء بن عبد الرحمن ، عن أبيه ، عن أبي هريرة ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ، بنحوه.
( ولا تجسسوا) التجسس: هو البحث عن عيوب الناس ، نهى الله تعالى عن البحث عن المستور من أمور الناس وتتبع عوراتهم حتى لا يظهر على ما ستره الله منها.
وقوله ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه) يقول - تعالى ذكره - للمؤمنين أيحب أحدكم أيها القوم أن يأكل لحم أخيه بعد مماته ميتا ، فإن لم تحبوا ذلك وكرهتموه ، لأن الله حرم ذلك عليكم ، فكذلك لا تحبوا أن تغتابوه في حياته ، فاكرهوا غيبته حيا ، كما كرهتم لحمه ميتا ، فإن الله حرم غيبته حيا ، كما حرم أكل لحمه ميتا. حدثني علي قال: ثنا أبو صالح قال: ثني معاوية ، عن علي ، عن ابن عباس قوله ( ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا) قال: حرم الله على المؤمن أن يغتاب المؤمن بشيء ، كما حرم الميتة. حدثني محمد بن عمرو قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عيسى ، وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد: ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا) قالوا: نكره ذلك ، قال: فكذلك فاتقوا الله. حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد ، عن قتادة ( أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه) يقول: كما أنت كاره لو وجدت جيفة مدودة أن تأكل منها ، فكذلك فاكره غيبته وهو حي. وقوله ( واتقوا الله إن الله تواب رحيم) يقول - تعالى ذكره -: فاتقوا الله أيها الناس ، فخافوا عقوبته بانتهائكم عما نهاكم عنه من ظن أحدكم بأخيه المؤمن [ ص: 309] ظن السوء ، وتتبع عوراته ، والتجسس عما ستر عنه من أمره ، واغتيابه بما يكرهه ، تريدون به شينه وعيبه ، وغير ذلك من الأمور التي نهاكم عنها ربكم ( إن الله تواب رحيم) يقول: إن الله راجع لعبده إلى ما يحبه إذا رجع العبد لربه إلى ما يحبه منه ، رحيم به بأن يعاقبه على ذنب أذنبه بعد توبته منه.
وقال صلى الله عليه وسلم: (مَن أَكَلَ برَجُلٍ مُسلمٍ أَكْلَةً فإنَّ اللهَ يُطْعِمُهُ مِثلَها من جَهَنَّمَ، ومَن كُسِـيَ ثوباً برجُلٍ مُسلمٍ فإنَّ اللهَ يَكْسُوهُ مِثلَهُ من جهنَّمَ، ومَن قامَ برَجُلٍ مقَامَ سُمْعَةٍ ورِياءٍ فإنَّ اللهَ يقُومُ بهِ مَقَامَ سُمْعَةٍ ورِياءٍ يومَ القيامةِ) رواه أبو داود وصحَّحه الذهبي. وعن جابرِ بنِ عبدِ اللهِ رضي الله عنهما قال: (كُنَّا معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم وارْتَفَعَتْ رِيحٌ خَبيثَةٌ مُنْتِنَةٌ، فقالَ صلى الله عليه وسلم: أَتَدْرُونَ ما هذِه؟ هذِهِ رِيحُ الذينَ يَغْتَابُونَ المؤمنينَ) رواه البخاري في الأدب المفرد وحسنه الألباني. ففُكُّوا رحمني الله وإياكم نفوسكم عن النار بصون ألسنتكم وحفظِها، وتعوَّذوا بالله من شرور الأنفسِ وسيِّئاتِ أعمالها، فالندمُ لا ينفعُ عندَ الفوتِ، والاعتذارُ لا يُسمعُ بعد الموتِ، جعلني الله وإياكم ووالدينا وأهلينا ممن طَهُرَ قلبُه من النفاق والرياء، وحفظ لسانه عن تتبع عورات المسلمين وأعراضهم، آمين آمين آمين. سبُحانكَ اللهُمَّ وبحمدِكَ، أشهدُ أن لا إله إلا أنتَ، أستغفرُكَ وأتوبُ إليكَ. أما بعد: فاتقوا الله بكفِّ ألسنتكم عن الوقوع في الباطل واغتيابِ كلِّ مسلمٍ غافلٍ.
فالمسلم الحق هو الذي يكون سليم الصدر، قرير العين، هادئ النفس لا يتعرض لأحد، ولهذا لما قيل لبعض التابعين: نراك تجلس في المجلس ولا تتكلم، فقال: علمت أن كل كلمة مسجلة عليَّ، فأردت أن يكون السكوت شعاري. فإذا كان الكلام من فضة، فإن السكوت من ذهب، وكم كلمة قالت لصاحبها: دعني، فو الله يا أحبابي إن ما يقع في قلوب بعض الناس من الحسد لإخوانهم هذا مرض فتاك ينخر في جوف المجتمع فيتفكك بناؤه، وتنهدم لبناته وإلا فالمجتمع ينبغي أن يكون قوي البناء سليماً متماسكا. فاحرصوا بارك الله فيكم على غسل قلوبكم من الحسد والبغضاء والكراهية والحقد، ولتكن صدوركم عامرة بالإيمان والتقوى ومحبة الآخرين، وليكن الشعار عندكم " لا يُؤمِنُ أحدُكم حتى يُحِبَّ لأخيه ما يُحِبُّ لنَفْسِه "، وليكن الميزان الذي تتفاضلون فيه قول الله -جلا وعلا-: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) [الحجرات: 13]. أيها المؤمنون: قال الحبيب -صلى الله عليه وسلم- في الحديث الذي يرويه عبدالله بن مسعود -رضي الله عنه-: " لا حسد إلا في اثنتيْنِ: رجلٌ آتاه اللهُ مالًا، فسلَّطَه على هَلَكَتِه في الحقِّ، وآخرُ آتاه اللهُ حكمةً، فهو يَقضي بها ويُعلِّمُها " (رواه البخاري).