إلى هنا نصل إلى نهاية هذا المقال الذي تحدَّثنا فيه عن تفسير اية وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا كما جاء في تفسير السعدي وكما جاء عن الإمام الطبري، وتحدثنا عن سبب نزول هذه الآية الكريمة، وتحدَّثنا أيضًا عن الأخوة الإنسانية ونبذ العنصرية في الإسلام.
التراحم بين المسلمين كم من خائفٍ لاجئ قد هجر عن بلاده وأحبابه، ولكن عندما يشعر اللاجئ بأنه لا أفضلية لأحد عليه في كل مكانٍ من بلاد المسلمين، وأنهم جميعاً سواسية لهم نفس الحقوق وعليهم نفس الواجبات؛ فسيبذل حينها كل جهده ليكون مثالاً يحتذى به وأنموذجاً للمواطن الصالح. انا خلقناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا سورة. أمة وسطا حين يطبّق المسلمون جميعاً هذه الآية، فيكونون على قلبٍ واحدٍ دون نزاعات وتفرّقات؛ سيكونون خير أمة أخرجت للناس يعملون جميعاً لإرضاء الله -تعالى-. إنسانية مثلى في الكون وذلك بأن يشعر الفرد المسلم بالآخرين، فهو ينبذ العنصرية، ويحافظ على تقوى الله إرضاءً له -تعالى-، ويرحم أخاه المسلم، فتكون هذه الأمةُ وسطاً كالشامة بين الأمم، وينشرون بين الناس هذه القيم المثلى؛ فحينها يتحقق التعامل الأمثل مع جميع الناس كونهم بشراً لا فرق فيهم بين أبيض وأسود ولا أعجمي ولا عربي إلّا بالتقوى. تفسير آية (وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا) يقول ابن كثير في تفسير آية: ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّـهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّـهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) ، [٢] أنّ الله خلق الناس من آدم وحواء؛ فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية سواء، وجعلهم شعوبا وقبائل، والشعوب أعم من القبائل، وذلك ليحصل التعارف بينهم، فيعرف أحدهم الآخر بنسبته إلى قبيلة كذا وكذا، وهم لا يتفاضلون عند الله إلا التقوى.
أو أن المراد الجنس؛ أي: إن بني آدم خُلِقوا كلُّهم من ذكر وأنثى. وهذا هو الغالب، وهو الأكثر. وإلا فإن الله خلق آدم من غير أم ولا أب، خلَقَه من تراب، من طين، من صلصال كالفخار، ثم نفخ فيه من روحه، خلق له روحًا فنفخها فيه، فصار بشرًا سويًّا. وخلق الله حواءَ من أبٍ بلا أم. فوائد من آية (وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا) - موضوع. وخلق الله عيسى من أمٍّ بلا أب. وخلق الله سائر البشر من أمٍّ وأب. والإنسان أيضًا كما أنه أربعة أنواع من جهة مادة خلقه، كذلك هو أربعة أنواع من جهة جنس الخلق، يقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿ لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ﴾ [الشورى: 49، 50]. هذه أيضًا أربعة أقسام: ﴿ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا ﴾ [الشورى: 49]؛ أي: بلا ذكور، يعني يوجد بعض الناس يولَد له الإناث، ولا يولد له ذكور أبدًا، كلُّ نسلِه إناث. ﴿ وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ ﴾ [الشورى: 49] فيكون كل نسله ذكورًا بلا إناث. ﴿ أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا ﴾ [الشورى: 50] يزوجهم يعني يصنفهم؛ لأن الزوج يعني الصنف، كما قال تعالى: ﴿ وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ ﴾ [ص: 58]؛ يعني أصناف، وقال: ﴿ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ ﴾ [الصافات: 22]؛ أي أصنافهم وأشكالهم، يزوجهم يعني يصنفهم ذكرانًا وإناثًا، هذه ثلاثة أقسام.
وقد قال أبو عيسى الترمذي: حدثنا أحمد بن محمد ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، عن عبد [ ص: 386] الملك بن عيسى الثقفي ، عن يزيد – مولى المنبعث – عن أبي هريرة ، عن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: " تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم; فإن صلة الرحم محبة في الأهل ، مثراة في المال ، منسأة في الأثر ". ثم قال: غريب ، لا نعرفه إلا من هذا الوجه. وقوله: ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم) أي: إنما تتفاضلون عند الله بالتقوى لا بالأحساب. وقد وردت الأحاديث بذلك عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: قال البخاري رحمه الله: حدثنا محمد بن سلام ، حدثنا عبدة ، عن عبيد الله ، عن سعيد بن أبي سعيد ، عن أبي هريرة قال: سئل رسول الله – صلى الله عليه وسلم –: أي الناس أكرم ؟ قال: " أكرمهم عند الله أتقاهم " قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: " فأكرم الناس يوسف نبي الله ، ابن نبي الله ، ابن خليل الله ". قالوا: ليس عن هذا نسألك. قال: " فعن معادن العرب تسألوني ؟ " قالوا: نعم. قال: " فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا ". تفسير قوله تعالى: {يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى}. وقد رواه البخاري في غير موضع من طرق عن عبدة بن سليمان. ورواه النسائي في التفسير من حديث عبيد الله – وهو ابن عمر العمري – به.
تفسير قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ﴾ وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾ [الحجرات: 13]. وقال تعالى: ﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 32]. ما تفسير قول الله تعالي: "وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا". قال سَماحة العلَّامةِ الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: ثم ذكَرَ المؤلِّف الحافظ النوويُّ رحمه الله في كتابه رياض الصالحين تحت عنوان باب التواضع وخفض الجناح للمؤمنين، في سياق الآيات المتعلقة بهذا الموضوع، وقال: وقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]. يخاطِب الله عزَّ وجلَّ الناس كلَّهم مبيِّنًا أنه خلقهم من ذكر وأنثى؛ أي: من هذا الجنس، أو من هذا الشخص. يعني إما أن يكون المراد بالذَّكَرِ والأنثى آدمَ وحواء.
القسم الرابع: ﴿ وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا ﴾ [الشورى: 50]: لا يولَد له لا ذَكَرٌ ولا أنثى؛ لأن الله سبحانه وتعالى له ملك السموات والأرض، يخلق ما يشاء، لا معقب لحكمه وهو السميع العليم. يقول جلَّ ذِكرُه: ﴿ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ ﴾ [الحجرات: 13]، الشعوب: الطوائف الكبيرة؛ كالعرب والعجم وما أشبه ذلك، والقبائل: ما دون ذلك، جمع قبيلة، فالناس بنو آدم شعوب وقبائل. شعوب: أُممٌ عظيمة كبيرة، كما تقول: العرب بجميع أصنافهم، والعجم بجميع أصنافهم، كذلك القبائل دون ذلك، كما تقول: قريش، بنو تميم، وما أشبه ذلك، هؤلاء القبائل. ﴿ لِتَعَارَفُوا ﴾: هذه هي الحكمة من أن الله جعَلَنا شعوبًا وقبائل؛ من أجل أن يَعرِف بعضنا بعضًا، هذا عربيٌّ، وهذا عجمي، هذا من بني تميم، هذا من قريش، هذا من خزاعة، وهكذا. فالله جعل هذه القبائلَ من أجل أن يَعرِفَ بعضنا بعضًا، لا من أجل أن يفخر بعضنا على بعض، فيقول: أنا عربي وأنت عجمي، أنا قبيلي وأنت خضيري، أنا غنيٌّ وأنت فقير، هذا من دعوى الجاهلية والعياذ بالله، لم يجعل الله هؤلاء الأصناف إلا من أجل التعارف، لا من أجل التفاخر؛ ولهذا قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((إن الله أذهَبَ عنكم عُبِّيَّةَ الجاهلية وفخرها بالآباء، مؤمنٌ تقيٌّ، وفاجر شقي، أنتم بنو آدم، وآدمُ من تراب)).