وقد كان لهذا العلّامة ما أراد؛ إذ أخرج فهارس كتاب صفة جزيرة العرب سنة 1891م، في حلّة قشيبة جامعة تربو صفحاتها على صفحات متن الكتاب المحقّق. على أنّ هذا الكتاب، على جودة تحقيقه وشمول فهارسه ورسوخ كَعْب مَنْ حقّقه وفهرسه، ظلّ حبيس مكتبات ضنينة بنفائس التّراث وذخائره، وتلك مكتبات دون مناوشة ما فيها خَرْط القَتاد، ولا يجرؤ على ذلك من الغَيارى على التّراث إلّا مَنْ كان ذا مال وعَتاد. وإنّما كان معوّل كثير من الباحثين على النّشرات التي تلت تحقيق موللير، على قلّة غنائها وكثرة ما بها من الجور على متن الكتاب؛ إذ تجاهل أصحابها تحقيق موللير، تجاهلاً حجب عنهم الإفادة من عمله تماماً، وهذا غريبٌ جدّا، ولاسيّما أنّ مطبوع موللير مضبوط ضبطاً تامًّا، في حين كانت النّشرات بعدها عاريةً من الضّبط، وإن وُجد فجلّه خطأ صُراح. واتّكاءً على جودة عمل موللير، وخشيةً من سرقة جهده تحت مُسمَّى إعادة تحقيق الأعمال الهاجعة للمستشرقين، وتلك شَكاةٌ ظاهرٌ عنك عارها= فإنّا نقدّم عمل الرّجل مصوَّراً كما أراده، مصدّراً بترجمةٍ يسيرة لمؤلِّف الكتاب وَفق استطاعتنا، علّ الله يقيّض لخدمته مَن ينهض له بحقّه. Education - This is a contributing Drupal Theme Design by WeebPal.
وقد يكون أهم سبب دعاه للاستقرار فيها هو وجود سند عائلي وقبلي، فقد كان سكان ريدة من العلويين الذي نعتهم الهمداني برهطة. إلى جانب وقوعها على مقربة من كثير من مواقع الآثار اليمنية القديمة التي عُنِى الهمداني بزيارتها واستقراء مساندها. وهناك انصرف كلية إلى التأليف الغزير، فكتب (الإكليل) بأجزائه العشرة ليكون موسوعة الحضارة اليمنية القديمة، وقد أشار غير مرة إلى فترة اشتغاله بتأليفه نحو عام (330هـ/941م). ويستفاد من كتاب (صفة جزيرة العرب) أنه كتبه بعد كتاب (الإكليل)، أما مصنفاته الأخرى مثل (اليعسوب، والأيام، والقوى، والزيج) فتدل الإحالات إليها في كتبه أنها ألفت قبل عام (330 هـ/ 941 م). ورغم أن بعض كتب الهمداني قد رويت عنه مختصرة أو منقحة، وبعضها ما زال مفقوداً إلا أنه من الثابت أنه كان غزير التأليف، وأن إقامته في ريدة كانت أغنى فترات الإنتاج عنده، بعد أن شغل قبل ذلك في مكة وصنعاء بالجمع والتحصيل. توفي الهمداني في ريدة، وبها قبره وبقية أهله، وقبره اليوم مجهول، وتاريخ وفاته غير ثابت وفيه خلاف، ويرجح أنه عاش إلى ما بعد (336هـ/947م).
ومن الجائز أن اتصاله الوثيق بأبي نصر محمد بن عبد الله اليهري قد تم بصنعاء في هذه الفترة، وهو عالم ونسابة كما وصفه الهمداني بقوله: "شيخ حمير وناسبها وعلامتها وحامل سفرها ووارث ما ادخرته ملوك حمير في خزائنها من مكنون علمها وقارئ مسندها والمحيط بلغاتها". ويستدل من بعض الإشارات على أن الهمداني لم يأبه إلى توعد الناصر فانطلق يكتب الأشعار ويجمع مفاخر قحطان، وألف (شرح الدامغة) في صنعاء، وظن أنه في حمى آل يعفر الحميريين، وأنهم لا ريب مانعوه. ولما بلغ الناصر أن الهمداني لم يكف وقيل: إنه تنقصه أيضاً في بعض أشعاره، كتب إلى أسعد بن أبي يعفر يعرفه بما بلغه من ثلب الهمداني له، وكان بين الناصر وأسعد مودة شديدة ووفاق عريض فورد كتاب أسعد إلى أبي الفتوح الخطاب ابن أخيه أمير صنعاء يأمره فيه أن يأمر بحبس الهمداني وتقييده فقيد وضُمِّن الحبس. وقد اختلط الأمر على الرواة في أمر سجن الهمداني حيث مزجوا بين سجنه لمدة قصيرة في صعدة علي يد الناصر، وبين سجنه الطويل في صنعاء على يد آل يعفر، أي بين سجنه عام (315هـ/927م) وسجنه عام(319 هـ/931م). وقد بادر إلى نجدته بعض رجال القبائل، فطالبوا به متوعدين فأذن بإطلاق سراحه في نحو 17 ذي القعدة من عام 321 هـ/8 نوفمبر 933 م)، فانتقل بعد ذلك إلى ريدة من بلاد قاع البون حيث قضى الهمداني بقية عمره.