ومن ذلك أيضا: ما يحصل في المعاملات من الأمور المشتبهة التي هي واضحة في قلب الموقن مشتبهة في قلب الضال والعياذ بالله تجده يتعامل معاملة تبين أنها محرمة لكن لما على قلبه من رين الذنوب ـ نسأل الله العافية ـ يشتبه عليه الأمر فيزين له سوء عمله ويظنه حسنا وقد قال الله في هؤلاء: (( قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا)). الدرر السنية. فهؤلاء هم الأخسرون والعياذ بالله. إذن الفتن تكون من الشبهات وتكون أيضا من الشهوات بمعنى أن الإنسان عرف أن هذا حرام ولكن لأن نفسه تدعوه إليه فلا يبالي بل يفعل الحرام يعلم أن هذا واجب لكن نفسه تدعوه للكسل فيترك هذا الواجب هذه فتنة شهوة يعني فتنة إرادة. ومن ذلك أيضا ـ بل من أعظم ما يكون ـ فتنة شهوة الزنا أو اللواط والعياذ بالله وهذه من أضر ما يكون على هذه الأمة قال النبي عليه الصلاة والسلام: (( ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء)), وقال: (( اتقوا النساء فإنما كانت فتنة بني إسرائيل في النساء)), ولدينا الآن في مجتمعنا من يدعوا إلى هذه الرذيلة والعياذ بالله بأساليب ملتوية يلتوون فيها بأسماء لا تمت إلى ما يقولون بصلة لكنها وسيلة إلى ما يريدون من تهتك لستر المرأة وخروجها من بيتها لتشارك الرجل في أعماله ويحصل بذلك الشر والبلاء ولكن نسأل الله أن يجعل كيدهم في نحورهم.
فهذا هو مثل هذا العسكري المسكين؛ يحمل سلاحه, ويناصر الصليبيين, ويحمي القوانين الوضعية التي تُعبد من دون الله, ويسوق الناس إليها سوقًا بالقيود والأغلال, يداهم لأجل ذلك عليهم بيوتهم, ويتربص بهم في نقاط التفتيش, ويرفع عنهم التقارير, فهل الأنظمة الباطشة في بلاد المسلمين إلا هذا العسكري المسكين؟ إنّ الذين يحاصرون إخواننا في غزة ويحرسون الحدود كي لا يتسلّل منها أحد, فيقتلون المسلمين تحت الأنفاق تنفيذًا للأوامر, هل هؤلاء إلا مصلون صائمون ينطقون الشهادتين؟ ولم يفعلوا ذلك إلا تنفيذًا للأوامر؟ فهذا العبد المأمور هناك كالعبد المأمور هنا. إنّ في الجيش الأمريكي أناسٌ من بني جلدتنا يستقبلون قِبلتنا ويصومون معنا, ويشاركون في الحرب على المسلمين في العراق وأفغانستان خوفًا على أرزاقهم, ولقد كان منهم من يُشرف على حالات إهانة المصحف في سجون كوبا محتجًّا بأنّ معه أوامر من الجنرال, وهو يصلي ويصوم, لكن الفرق بين جندي أمريكا وجندي عملائها أنّ أحدهما يتلقّى الأمر من الصليبيين مباشرة, والآخر كان بينه وبين الصليبيين عميلٌ من بني جلدتنا. ولقد سمعت بعضًا من الناس يعذرون العسكري بأنّه ما فعل ما فعل إلا طلبًا للرزق, وهذا الكلام يدل على خللٍ في توحيد قائله, إذ لم يؤمن حق الإيمان بأنّ الله هو الرزّاق ذو القوة المتين, فعذرَ الناس في طلبهم الرزق بمعصية الله.
• (وَيُمْسِي كَافِرا): يحتمل كفر النعمة، ويحتمل الكفر الحقيقي. قال القرطبي مرجحا الكفر الحقيقي: "ولا إحالة ولا بعد في حمل هذا الحديث على ظاهره، لأن المحن والشدائد إذا توالت على القلوب أفسدتها بغلبتها عليها، وبما تؤثر فيها من القسوة و الغفلة التي هي سبب الشقوة". يبيع دينه بعرض من الدنيا. [المفهم (1/326)]. • (يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِنَ الدُّنْيَا): جملة تعليلية لتحوله إلى الكفر، وعَرَض الدنيا ما يُعرض فيها وكل ما في الدنيا فهو عرض، وسمي بذلك لأنه يعرض ويزول إما أن تزول أنت قبله أو هو يزول قبلك، قال تعالى: ﴿ تُرِيْدُوْنَ عَرَضَ الدُّنْيَا ﴾. فوائد الحديث: الفائدة الأولى: في الحديث الحث على العمل الصالح قبل قدوم ما يحجبها من الفتن، لأن الفتن إذا حلت فإنها تحول بين الإنسان والعمل الصالح، وإن بادر فيها قبل حلولها وأقبل على الله كان العمل الصالح حماية له منها. قال النووي: "معنى الحديث الحث على المبادرة إلى الأعمال الصالحة قبل تعذرها والاشتغال عنها بما يحدث من الفتن الشاغلة المتكاثرة، المتراكمة كتراكم ظلام الليل المظلم لا المقمر، ووصف صلى الله عليه وسلم نوعاً من شدائد تلك الفتن، وهو أن يمسي مؤمناً ثم يصبح كافراً أو عكسه، وهذا لعظم الفتن، ينقلب الإنسان في اليوم الواحد هذا الانقلاب".
الفائدة الثالثة: في الحديث ذم الحياة الدنيا الفانية بما فيه من عرض (مال أو منصب أو جاه أو شهرة ونحوها)، والحذر من تقديمها على الآخرة الباقية، بل والحرص على الدين والاحتياط عند التمتع بعرض الدنيا، لأنها تقلب دين العبد وتحول دونه ودون عبادة ربه، ولذا الولوج في الفتن يضعف العمل الصالح. وللفتن مباحث وضوابط وقواعد سيأتي بيانها في شرح كتاب الفتن بإذن الله تعالى. مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الإيمان) مرحباً بالضيف