فأنفع الأشياء له على الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه.. وأضر الأشياء عليه على الإطلاق معصيته بظاهره وباطنه.. فإذا قام بطاعته وعبوديته مخلصا له فكل ما يجري عليه مما يكرهه يكون خيرا له.. وإذا تخلى عن طاعته وعبوديته فكل ما هو فيه من محبوب هو شر له.. فمن صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته علم يقيناً أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولا فكرته، بل مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب. فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها، كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها...... كذلك الأب الشفيق على ولده بمصلحته، إذا رأى مصلحته في إخراج الدم الفاسد عنه بضع جلده وقطع عروقه، وأذاقه الألم الشديد. اية وعسى ان تكرهوا شيئا وهو خير لكم دينكم. وإن رأى شفاءه في قطع عضو من أعضائه أبانه عنه، كل ذلك رحمة به وشفقة عليه، وإن رأى مصلحته في أن يمسك عنه العطاء لم يعطه ولم يوسع عليه؛ لعلمه أن ذلك أكبر الأسباب إلى فساده وهلاكه، وكذلك يمنعه كثيرًا من شهواته حماية له ومصلحة لا بخلاً عليه، فأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأعلم العالمين الذي هو أرحم بعباده منهم بأنفسهم، ومن آبائهم وأمهاتهم إذا أنزل بهم ما يكرهون كان خيراً لهم من ألا ينزله بهم، نظراً منه لهم وإحساناً إليهم ولطفاً بهم.
وهذا الخير المجمل، فسره قوله تعالى في سورة النساء ـ في سياق الحديث عن مفارقة النساء ـ: {فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} [النساء: 19]. فقوله (خيراً كثيراً) مفسر وموضح للخير الذي ذكر في آية البقرة، وهي الآية الأولى التي استفتحنا بهذا هذا الحديث. ايه وعسي ان تكرهوا شييا وهو خير لكم صور كبيره. ومعنى القاعدة بإيجاز: أن الإنسان قد يقع له شيء من الأقدار المؤلمة، والمصائب الموجعة، التي تكرهها نفسه، فربما جزع، أو أصابه الحزن، وظن أن ذلك المقدور هو الضربة القاضية، والفاجعة المهلكة، لآماله وحياته، فإذا بذلك المقدور منحة في ثوب محنة، وعطية في رداء بلية، وفوائد لأقوام ظنوها مصائب، وكم أتى نفع الإنسان من حيث لا يحتسب!. والعكس صحيح: فكم من إنسان سعى في شيءٍ ظاهره خيرٌ، وأهطع إليه، واستمات في سبيل الحصول عليه، وبذل الغالي والنفيس من أجل الوصول إليه، فإذا بالأمر يأتي على خلاف ما يريد، و هذا هو معنى القاعدة القرآنية التي تضمنتها هذه الآية باختصار. أيها القارئ الموفق: ما إن تمعن بناظريك، وترجع البصر كرتين، متأملاً الآيتين الكريمتين الأولى والثانية، إلا وتجد الآية الأولى ـ التي تحدثت عن فرض الجهاد ـ تتحدث عن ألم بدني وجسميًّ قد يلحق المجاهدين في سبيل الله، كما هو الغالب، وإذا تأملت الآية الثانية ـ آية مفارقة النساء ـ ألفيتها تتحدث عن ألم نفسي يلحق أحد الزوجين بسب فراقه لزوجه!
عباد الله: كم من الهموم والمصائب والبلايا تعترينا وتقتحم منازلنا بلا إذن منا مسبق، وقد تطول بنا أيامًا ولياليَ لا حصر لها، وربما يجزع البعض ويفقد صوابه، فيتلفظ لسانه بما يغضب الرب عز وجل نسأل الله العافية، ناسيًا أن ما أصابه ما هو إلا امتحان لإيمانه بالقضاء والقدر، وامتحان لصبره ويقينه بما عند الله من الثواب الجزيل لمن آمن وصبر على البلاء، فالقضاء والقدر هو الركن السادس من أركان الإيمان وكلٌّ يُبتلى على قدر إيمانه؛ قال تعالى: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾ [العنكبوت: 2]. عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((جاءت مشركو قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخاصمونه في القدر فنزلت هذه الآية: ﴿ إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ ﴾ [القمر: 47] إلى قوله: ﴿ إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ ﴾ [القمر: 49]))؛ [أخرجه مسلم (2656)].
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّىٰ (33) قوله تعالى: أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى الآيات. لما بين جهل المشركين في عبادة الأصنام ذكر واحدا منهم معينا بسوء فعله. قال مجاهد وابن زيد ومقاتل: نزلت في الوليد بن المغيرة ، وكان قد اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم على دينه فعيره بعض المشركين ، وقال: لم تركت دين الأشياخ وضللتهم وزعمت أنهم في النار ؟ قال: إني خشيت عذاب الله; فضمن له إن هو أعطاه شيئا من ماله ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الله ، فأعطى الذي عاتبه بعض ما كان ضمن له ثم بخل ومنعه فأنزل الله تعالى هذه الآية. وقال مقاتل: كان الوليد مدح القرآن ثم أمسك عنه فنزل: وأعطى قليلا أي من الخير بلسانه وأكدى أي قطع ذلك وأمسك عنه. وعنه أنه أعطى رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد الإيمان ثم تولى فنزلت: أفرأيت الذي تولى الآية. وقال ابن عباس والسدي والكلبي والمسيب بن شريك: نزلت في عثمان بن عفان رضي الله عنه كان يتصدق وينفق في الخير ، فقال له أخوه من الرضاعة عبد الله بن أبي سرح: ما هذا الذي تصنع ؟ يوشك ألا يبقى لك شيء. تفسير قول الله تعالى: ( أفرأيت الذي تولى * وأعطى قليلا وأكدى ). فقال عثمان: إن لي ذنوبا وخطايا ، وإني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى وأرجو عفوه! فقال له عبد الله: أعطني ناقتك برحلها وأنا أتحمل عنك ذنوبك كلها.
الشيخ بسام جرار | تفسير أفرأيت الذي تولى من سورة النجم - YouTube
القول في تأويل قوله تعالى: ( أفرأيت الذي تولى ( 33) وأعطى قليلا وأكدى ( 34) أعنده علم الغيب فهو يرى ( 35) أم لم ينبأ بما في صحف موسى ( 36) وإبراهيم الذي وفى ( 37) ألا تزر وازرة وزر أخرى ( 38) وأن ليس للإنسان إلا ما سعى ( 39)) يقول - تعالى ذكره -: أفرأيت يا محمد الذي أدبر عن الإيمان بالله ، وأعرض [ ص: 541] عنه وعن دينه ، وأعطى صاحبه قليلا من ماله ، ثم منعه فلم يعطه ، فبخل عليه. وذكر أن هذه الآية نزلت في الوليد بن المغيرة من أجل أنه عاتبه بعض المشركين ، وكان قد اتبع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على دينه ، فضمن له الذي عاتبه إن هو أعطاه شيئا من ماله ، ورجع إلى شركه أن يتحمل عنه عذاب الآخرة ، ففعل ، فأعطى الذي عاتبه على ذلك بعض ما كان ضمن له ، ثم بخل عليه ومنعه تمام ما ضمن له. أفرأيت الذي تولى . وأعطى قليلاً وأكدى - مع القرآن (من الأحقاف إلى الناس) - أبو الهيثم محمد درويش - طريق الإسلام. ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن عمرو قال: ثنا أبو عاصم قال: ثنا عيسى; وحدثني الحارث قال: ثنا الحسن قال: ثنا ورقاء جميعا ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قوله ( وأكدى) قال: الوليد بن المغيرة أعطى قليلا ثم أكدى. حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله ( أفرأيت الذي تولى)... إلى قوله ( فهو يرى) قال: هذا رجل أسلم ، فلقيه بعض من يعيره فقال: أتركت دين الأشياخ وضللتهم ، وزعمت أنهم في النار ، كان ينبغي لك أن تنصرهم ، فكيف يفعل بآبائك ، فقال: إني خشيت عذاب الله ، فقال: أعطني شيئا ، وأنا أحمل كل عذاب كان عليك عنك ، فأعطاه شيئا ، فقال: زدني ، فتعاسر حتى أعطاه شيئا ، وكتب له كتابا ، وأشهد له ، فذلك قول الله ( أفرأيت الذي تولى وأعطى قليلا وأكدى) عاسره ( أعنده علم الغيب فهو يرى) نزلت فيه هذه الآية.
(*) والثاني: أنه النضر بن الحارث أعطى بعض الفقراء المسلمين خمس قلائص حتى ارتد عن إسلامه، وضمن له أن يحمل عنه إثمه، قاله الضحاك. (*) والثالث: أنه أبو جهل، وذلك أنه قال: والله ما يأمرنا محمد إلا بمكارم الأخلاق، قاله محمد بن كعب القرظي. (*) والرابع: أنه العاص بن وائل السهمي، وكان ربما وافق رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض الأمور، قاله السدي.
حدثنا ابن حميد قال: ثنا مهران ، عن سفيان ، عن جابر ، عن مجاهد ، عن عكرمة ( وإبراهيم الذي وفى) قالوا: بلغ هذه الآيات ( ألا تزر وازرة وزر أخرى). حدثنا بشر قال: ثنا يزيد قال: ثنا سعيد ، عن قتادة قوله ( وإبراهيم الذي وفى) قال: وفى طاعة الله ، وبلغ رسالات ربه إلى خلقه. وكان عكرمة يقول: وفى هؤلاء الآيات العشر ( ألا تزر وازرة وزر أخرى)... حتى بلغ ( وأن عليه النشأة الأخرى). أفرأيت الذي تولّى و أعطى قليلا. [ ص: 544] حدثنا ابن عبد الأعلى قال: ثنا ابن ثور ، عن معمر ، عن قتادة في قوله ( وإبراهيم الذي وفى) وفى طاعة الله ورسالاته إلى خلقه. حدثني يحيى بن طلحة اليربوعي قال: ثنا أبو بكير ، عن أبي حصين ، عن سعيد بن جبير في قوله ( وإبراهيم الذي وفى) قال: بلغ ما أمر به. حدثنا ابن حميد قال: ثنا مهران ، عن سفيان ( وإبراهيم الذي وفى) قال: بلغ. حدثني يونس قال: أخبرنا ابن وهب قال: قال ابن زيد في قوله ( وإبراهيم الذي وفى) قال: وفى: بلغ رسالات ربه ، بلغ ما أرسل به ، كما يبلغ الرجل ما أرسل به. وقال آخرون: بل وفى بما رأى في المنام من ذبح ابنه ، وقالوا: قوله ( ألا تزر وازرة وزر أخرى) من المؤخر الذي معناه التقديم ، وقالوا: معنى الكلام: أم لم ينبأ بما في صحف موسى ألا تزر وازرة وزر أخرى ، وبما في صحف إبراهيم الذي وفى.
[١٢] ويمكنك قراءة المزيد حول سورة النجم وما تحويه من مقاصد بالاطلاع على هذا المقال: مقاصد سورة النجم ما سبب تسمية سورة النجم بهذا الاسم؟ سمّيت سورة النّجم باسمها "النّجم" لأنّ لفظة النّجم ذُكرت فيها، وقد سمّيت باسم آخر كذلك هو "والنّجم"، وسبب ذلك أنّ حرف الواو مذكور في الآية الآولى من السّورة، حيث قال تعالى: {والنّجم}، [١٣] فجاءت تسميتها بهذا الاسم لمحاكاة اللفظ القرآنيّ كما هو. [١٤] وللاستزادة حول سورة النجم وأبرز محاورها يمكنك الاطلاع على هذا المقال: تأملات في سورة النجم المراجع [+] ↑ [الثعالبي، أبو زيد]، تفسير الثعالبي الجواهر الحسان في تفسير القرآن ، صفحة 321. بتصرّف. ↑ رواه العراقي ، في تخريج الإحياء، عن ثابت بن الحارث الأنصاري، الصفحة أو الرقم:4/39، فيه ابن لهيعة. ↑ سورة النجم ، آية:32 ↑ السيوطي، الدر المنثور في التفسير بالمأثور ، صفحة 657 - 658. بتصرّف. ↑ سورة النجم، آية:33 ^ أ ب سليم الهلالي، الاستيعاب في بيان الأسباب ، صفحة 298 - 299. بتصرّف. ↑ [سليم الهلالي]، الاستيعاب في بيان الأسباب ، صفحة 299. بتصرّف. ↑ رواه ابن العربي، في عارضة الأحوذي، عن أبي ذر الغفاري، الصفحة أو الرقم:5/152، حديث صحيح.
· أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى * أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فهو يرى - YouTube