ومثل هذا قوله صلى الله عليه وسلم: «المؤمن الذي يخالط الناس، ويصبر على أذاهم خير من المؤمن الذي لا يخالط الناس، ولا يصبر على أذاهم». ومفهوم هذه النصوص الصحيحة المحكمة أن فاقد الإيمان لا خير فيه؛ لأنه إذا عدم الإيمان، فإما أن يكون الشخص أحواله كلها شر وضرر على نفسه، وعلى المجتمع من جميع الوجوه، وإما أن يكون فيه بعض الخير الذي قد انغمر بالشر. مخالطة الناس. وغلب شره خيره. والمصالح إذا انغمرت واضمحلت في المفاسد، صارت شرا؛ لأن الخير الذي معه، يقابله شر نظيره فيتساقطان، ويبقى الشر - الذي لا مقابل له من الخير - يعمل عمله. ومن تأمل الواقع في الخلق، رأى الأمر كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم.
ولئن كان في العزلة تخلصٌ من الوقوع في الأعراض، والسعي في النميمة والغيبة، والتنابز بالألقاب، وفساد الطبع في الأخلاق الرديئة، فإن في مخالطة الصالحين ما يزجر عن هذه المعايب، ويبصر بتلك المثالب، وإن لم تجدِ النصيحة في موقع فإنها مجدية في موقعٍ آخر، وإن لم ينفع التوجيه في وقتٍ فإنه نافعٌ في وقتٍ آخر، والمهمة بالبلاغ والهداية بيد الله، ولكن ليبلو بعضكم ببعض، وإن ما ينقل من الرغبة في العزلة عن بعض من سلف فإنما هي أحوالٌ خاصة، تعرض لمن تعرض له فتجعل الاعتزال عنده أرجح، ولا يمكن أن تكون العزلة مذهباً يسع الناس كلهم. الجمع بين الخلطة والعزلة
التِّرْمِذِيّ: حَدثنَا مُحَمَّد بن الْمثنى، ثَنَا أَبُو دَاوُد، ثَنَا أَبُو سِنَان، ثَنَا حبيب بْن أبي ثَابت، عَن أبي صَالح، عَن أبي هُرَيْرَة قَالَ: «قيل: يَا رَسُول الله، الرجل يعْمل الْعَمَل فيسره، فَإِذا اطلع عَلَيْهِ أعجبه ذَلِك. قَالَ رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَهُ أَجْرَانِ: أجر السِّرّ، وَأجر الْعَلَانِيَة». هَذَا حَدِيث غَرِيب، أرْسلهُ الْأَعْمَش وَغَيره، عَن حبيب، عَن أبي صَالح، عَن النَّبِي- عَلَيْهِ السَّلَام- ذكر ذَلِك أَبُو عِيسَى، وَأَبُو سِنَان هُوَ مَشْهُور. الطَّحَاوِيّ: حَدثنَا يُونُس، ثَنَا عبد الله بن وهب، أَخْبرنِي حَيْوَة بن شُرَيْح، عَن سَالم بن غيلَان، عَن دراج أبي السَّمْح، عَن أبي الْهَيْثَم، عَن أبي سعيد، عَن رَسُول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِذا رَضِي الله عَن العَبْد أثنى عَلَيْهِ سَبْعَة أَضْعَاف من الْخَيْر لم يعملها. وَقَالَ فِي السخط مثله». الْبَزَّار: حَدثنَا الْحسن بن عَرَفَة، ثَنَا شُجَاع بن الْوَلِيد، ثَنَا هَاشم بن هَاشم، عَن عَامر بن سعد- هُوَ سعد بن أبي وَقاص- عَن أَبِيه قَالَ: سَمِعت النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنباءة أَو بالنباوة يَقُول: «يُوشك أَن تعرفوا أهل الْجنَّة من أهل النَّار.