استخدمت الفنانة دانة عورتاني الطين الترابي الذي جمعته من مناطق في السعودية على أطلال حلب وقفت دانة عورتاني، لتصف لنا مشهد الخراب الذي سببته الحرب في المدينة السورية، وطالت آثاره كل معالم الجمال فيها، وهي التي كانت يوماً مقصداً للسياح من حول العالم. ترجمت عورتاني هذا الخراب عبر تطرقها لجامع حلب الكبير، الذي بُني في القرن الـ13 الميلادي، وأصبح أيقونة المدينة، إلى أن دمرته الاشتباكات التي شهدتها ساحة الجامع في العام 2013، وأسقطت مئذنته البالغ عمرها أكثر من ألف عام. تشارك عورتاني في «بينالي الدرعية» بعملها الذي يحاكي فناء الجامع، حيث قدمت نسخة كبيرة الحجم يبلغ طولها أكثر من 20 متراً وعرضها 10 أمتار، من خلال استخدامها قوالب من الطوب المصنوعة من الطين التي جمعته من مناطق مختلفة من السعودية. اللافت أن دانة تجنبت استخدام القش، على غير المعتاد، لزيادة تماسك الطوب، ولكي لا يتصدع المبنى مع مرور الوقت. لاستخدام عورتاني للطوب الترابي (مادة زهيدة التكلفة)، معنى كبير في الذاكرة الجماعية، ودور تاريخي في تطور فنون العمارة، لأنه يوحي بإشارات من الأمل والتكافل بين أفراد المجتمع. يستمد عمل عورتاني اسمه من أحد أغراض الشعر الجاهلي المعروف بـ«الوقوف على الأطلال»، ويعود هذا النوع من الشعر للحياة مجدداً، عبر أعمال لعدة فنانين كردة فعل منهم تجاه مشاهد الحرب والدمار.
وربما تكون طبيعة الحياة والترحال والفراق أسباباً مهمة للوقفة الطللية، ولكن ذلك يجب ألاَّ ينسينا سبباً جوهرياً ليس أقل أهمية، ويتمثَّل بذاك الشعور المتوضّع في قاع النفس الشاعرة القائم على الخوف من الموت المدمّر للطبيعة والحضارة معاً، وهذا ما يجعل الوقوف على الطلل في معناه البعيد هو وقوف على أطلال الحياة التي تحوَّلت إلى موت لا يبقي من تلك الحياة سوى الرسوم والآثار التي تؤرِّق راحة الشاعر وتقلقه. ومن هنا قد يكون الموقف الطلَّلي إفصاحاً عن البعد المأساوي للمعاش وجودياً واجتماعياً. إنَّ الدمار الذي تقدمه المعلقة في مطلعها الطللي يولِّد إحساساً بآنية الوجود، أو بالزمن الهارب نتيجة الدمار الذي تمارسه الطبيعة على الحضارة، وإذا ما توقفنا عند أمثلة على ذلك من المعلقات، فإننا سنرى مثلاً، أن معلقة طرفة تأتي مزيُّتها- على ما يرى يوسف اليوسف - من تعارض انفعالين أساسيين هما: آنية الحياة ومطلقية الموت، ما من مطلق إلاِّ الموت، أما الحياة فهي شبح الحقيقة، خيالها، ولذا نرى البيت الأوَّل محكوماً بصورة الظهور السريع للأشياء واختفائها: لخولة أطلالٌ ببرقة ثهمد تلوح كباقي الوشم في ظاهر اليد فالطلل وباقي الوشم يدلان على أن شيئاً ما قد كان موجوداً، ولكنه آخذٌ الآن في الانطماس.
فمنذ هبط آدم وحواء من الجنة، ونحن لا نفعل شيئاً سوى الوقوف على طلل الفردوس الذي خسرناه، أو «البحث عن الزمن المفقود»، على حد تعبير مارسيل بروست. وإذا كانت الجنة هي النموذج الأصلي لأحلام البشر الجمعية، فإن لكلّ شخص على حدة جنته الخاصة التي ضيعها في غفلة من الزمن، والتي تتوزع بين الطفولة الغاربة والحب الأول والأماكن الضائعة، وغيرها من المفقودات. لم يكن الوقوف على الأطلال بهذا المعنى سوى محصلة طبيعية لخروج الحياة عن سياقها الأول، من خلال تذرر اللحظات، أو تشتت الأماكن، أو انقلاب المسارات والمصائر. وحتى لو بقي المكان ثابتاً لا يتغير فإن الزمان لن يفعل الشيء نفسه، بل ستتحول كل لحظة نعيشها إلى طلل زمني بالقياس إلى اللحظة التي تليها. ولن يكون بمستطاع أحد تبعاً لذلك أن يوقف حركة الزمن التي لا تأبه من جهتها بمآلات أجسادنا التي تهرم وبيوتنا التي تؤول إلى زوال. وهو ما يعكسه بوضوح بيت أبي العتاهية الشهير: لدوا للموت وابنوا للخرابِ فكلّكمُ يسير إلى يبابِ وحده الفن بفروعه المختلفة يمكن أن يتكفل بتقييد حركة الزمن وتثبته في صورة أو لوحة أو منحوتة أو قصيدة أو عمل موسيقي أو قصيدة شعرية. وأي نظرة عميقة ومتفحصة إلى راهن الأدب والفن، كما إلى مسارهما التاريخي، لا بد أن تظهر للقارئ المتابع الكيفية التي استطاع بواسطتها الكتاب والفنانون أن يستردوا باللغة والحنين كل ما خسروه في الواقع، وأن يجعلوا من الماضي صفة من صفات الحاضر، وذخيرة للمستقبل غير قابلة للنفاد.