( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم) قوله تعالى:( وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله إنه هو السميع العليم). واعلم أنه لما بين ما يرهب به العدو من القوة والاستظهار ، بين بعده أنهم عند الإرهاب إذا جنحوا أي مالوا إلى الصلح ، فالحكم قبول الصلح. قال النضر: جنح الرجل إلى فلان ، وجنح له إذا تابعه وخضع له ، والمعنى: إن مالوا إلى الصلح فمل إليه وأنث الهاء في لها ؛ لأنه قصد بها قصد الفعلة والجنحة ، كقوله:( إن ربك من بعدها لغفور رحيم) أراد من بعد فعلتهم. القرآن الكريم - تفسير الطبري - تفسير سورة الأنفال - الآية 61. قال صاحب "الكشاف": السلم تؤنث [ ص: 150] تأنيث نقيضها وهي الحرب. قال الشاعر: السلم تأخذ منها ما رضيت به والحرب تكفيك من أنفاسها جرع وقرأ أبو بكر عن عاصم للسلم بكسر السين ، والباقون بالفتح وهما لغتان ، قال قتادة: هذه الآية منسوخة بقوله:( فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم) [التوبة: 5] وقوله:( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله) [التوبة: 29] وقال بعضهم: الآية غير منسوخة لكنها تضمنت الأمر بالصلح إذا كان الصلاح فيه ، فإذا رأى مصالحتهم فلا يجوز أن يهادنهم سنة كاملة ، وإن كانت القوة للمشركين جاز مهادنتهم للمسلمين عشر سنين ولا يجوز الزيادة عليها اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه هادن أهل مكة عشر سنين ، ثم إنهم نقضوا العهد قبل كمال المدة.
فأما ما كان بخلاف ذلك، فغير كائنٍ ناسخا. (59) وقول الله في براءة: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ ، غير نافٍ حكمُه حكمَ قوله. (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها) ، لأن قوله: (وإن جنحوا للسلم) ، إنما عني به بنو قريظة, وكانوا يهودًا أهلَ كتاب, وقد أذن الله جل ثناؤه للمؤمنين بصلح أهل الكتاب ومتاركتهم الحربَ على أخذ الجزية منهم. وأما قوله: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ فإنما عُني به مشركو العرب من عبدة الأوثان، الذين لا يجوز قبول الجزية منهم. وإن جنحوا للسلم فاجنح لها اسلام ويب. فليس في إحدى الآيتين نفي حكم الأخرى, بل كل واحدة منهما محكمة فيما أنـزلت فيه. 16251- حدثني محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو عاصم قال: حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد: (وإن جنحوا للسلم) ، قال: قريظة. * * * وأما قوله: (وتوكل على الله) ، يقول: فوِّض إلى الله، يا محمد، أمرك, واستكفِه، واثقًا به أنه يكفيك (60) كالذي:- 16252- حدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: (وتوكل على الله) ، إن الله كافيك. (61) * * * وقوله: (إنه هو السميع العليم) ، يعني بذلك: إن الله الذي تتوكل عليه، " سميع " ، لما تقول أنت ومن تسالمه وتتاركه الحربَ من أعداء الله وأعدائك عند عقد السلم بينك وبينه, وما يشترط كل فريق منكم على صاحبه من الشروط (62) = " العليم " ، بما يضمره كل فريق منكم للفريق الآخر من الوفاء بما عاقده عليه, ومن المضمر ذلك منكم في قلبه، والمنطوي على خلافه لصاحبه.
وقال أيضًا: ﴿ وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ ﴾ [النحل: 126]. وبالجملة فمعنى الجملة ( وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلمِ فَاجنَح لَهَا): إنْ دانوا للسلم فاقبلها. المصادر والمراجع: 1- القرآن الكريم. 2- أساس البلاغة لأبي القاسم الزمخشري، تحقيق: محمد باسل عيون السود، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، ط1، 1998م. 3- جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام لأبي زيد محمد بن أبي الخطاب القرشي، تحقيق: محمد علي البجادي، نهضة مصر للطباعة والنشر والتوزيع، د. ت. 4- جمهرة خطب العرب في عصور العربية الزاهرة لأحمد زكي صفوت، شركة مكتبة ومطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده، مصر، ط1، 1933م. 5- ديوان أعشى همدان، تحقيق: د. حسن عيسى أيو ياسين، دار العلوم للطباعة والنشر، الرياض، ط1، 1983م. وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا – مجلة الوعي. 6- ديوان الأعشى الكبير بشرح محمود إبراهيم محمد الرضواني، وزارة الثقافة والفنون والتراث، إدارة البحوث والدراسات الثقافية، الدوحة، قطر، 2010م. 7- ديوان الخنساء، اعتنى به وشرحه: حمدو طمّاس، دار المعرفة، بيروت، 2004م. 8- ديوان الكميت بن زيد الأسدي، جمع وشرح وتحقيق: د.
بقلم: محمد الشويكي عن جريدة «النهضة» المقدسية كثر الكلام في العقدين الأخيرين عن ما يسمى بالسلام حتى صار لغة السياسيين وهدف الحكام وشغلهم الشاغل، فانطلقوا يمنه ويسرة في الحديث عنه لإقناع الشعوب الإسلامية بمشروعيته، وإنه إنما تنال الشعوب حقوقها عن طريقه، حتى صار المتكلم عن الحرب منبوذاً متطرفاً، والمتكلم عن السلام مقبولاً معتدلاً. وراحوا يتلمسون الحجج والبراهين على صدق وصحة زعمهم بآيات من كتاب الله ( وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ) ومن أفعال النبي -صلى الله عليه وسلم- في «صلح الحديبية»، وصلح الرملة لصلاح الدين الأيوبي مع الصليبيين. وإن جنحوا للسلم فاجنح لها. أما الآية فلا تنطبق على ما يزعمونه ويدْعون إليه، لعدة أسباب منها: أولاً: أن السَّلم الوارد في الآية هو بمعنى الصلح والمهادنة والموادعة لأجل، وليس السلام المنشود في هذه الأيام (الشامل والدائم). ثانياً: أن هذه الآية متعارضة مع قوله تعالى: ( فَلاَ تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمْ الأَعْلَوْنَ). ثالثاً: العمل بهذه الآية هو فقط في حالة ضعف المسلمين وعدم القدرة والإمكانية على حرب ومقاتلة الكفار، وهذا هو قيد المنع.
* * * يقال منه: " جنح الرجل إلى كذا يجنح إليه جنوحًا ", وهي لتميم وقيس، فيما ذكر عنها, تقول: " يجنُح " ، بضم النون، وآخرون: يقولون: " يَجْنِح " بكسر النون, وذلك إذا مال, ومنه قول نابغة بني ذبيان: جَــوَانِحَ قَــدْ أَيْقَــنَّ أَنَّ قَبِيلَــهُ إذَا مَـا التَقَـى الجمْعـانِ أَوَّلُ غَـالِبِ (57) جوانح: موائل. * * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل.
والسِّلْمُ هي الصلح فالأمن وضدُّها الحرب كما قال الأعشى الكبير: بني عمِّنا لا تبعثوا الحربَ بيننا *** كردِّ رجيعِ الرفضِ وارمُوا إلى السِّلْم [2] وقال مسلم بن معبد: فأيُّ أخٍ لسِلمك بعدَ حربي *** إذا قومُ العدوِّ دُعُوا فجاءوا [3] وقال عامر المحاربي: جنيتم علينا الحربَ ثم ضجعتم *** إلى السلم لما أصبح الأمرُ مُبهَما [4] وللأمن قول الخنساء: ونلبس في الحرب نسجَ الحديد *** ونسحب في السلم خزًّا وقزَّا [5] والسلم أيضًا الإسلام كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 208].