وكلمة «دأب» على وزن «أدب» تعني في الأصل إدامة الحركة، كما أنها بمعنى العادة المستمرة، فيكون معنى الكلام: عليكم أن تزرعوا تبعاً لعادتكم المستمرة في مصر، ولكن ينبغي أن تقتصدوا في مصرفه.. ويحتمل أن يكون المراد منه أن تزرعوا بجد وجهد أكثر فأكثر لأن دأباً ودؤوباً بمعنى الجد والتعب أيضاً، أي اعملوا حتى تتعبوا. وكون عدد البقرات العجاف والسنابل اليابسات لم يتجاوز السبع لكل منهما دليل آخر على انتهاء الجفاف والشدة مع انتهاء تلك السنوات السبع.. وبالطبع فإن سنة ستأتي بعد هذه السنوات ستكون مملوءة بالخيرات والأمطار، فلابد من التفكير في البذر في تلك السنة وأن يحتفظوا بشيء مما يخزن. تخطيط مستقبلي وفي الحقيقة لم يكن يوسف مفسراً بسيطاً للأحلام، بل كان قائداً يخطط من زاوية السجن لمستقبل البلاد، وقد قدم مقترحاً من عدة مواد لخمسة عشر عاماً على الأقل، وكما سنرى فإن هذا التفسير المقرون بالمقترح للمستقبل حرك الملك وحاشيته وكان سبب إنقاذ أهل مصر من القحط القاتل من جهة، وأن ينجو يوسف من سجنه وتخرج الحكومة من أيدي الطغاة من جهة أخرى. إن يوسف من دون أن يطلب شرطاً أو قيداً أو أجراً لتفسيره بادر إلى تفسير الرؤيا فوراً تفسيراً دقيقاً لا غموض فيه ولا حجاب مقروناً بما ينبغي عمله في المستقبل و(قال تزرعون سبع سنين دأباً فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلاً مما تأكلون).
الرئيسية المقالات تزرعون سبع سنين دأبًا القرآن نجد فيه حلا لكل مشاكلنا، سواء المشاكل الروحية أو المشاكل المادية؛ ففى هذه الآية من سورة يوسف حل للمشكلة الاقتصادية والخروج من نفق التبعية الاقتصادية للغير "قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)". وهذه بداية تأويل رؤيا الملك، والدأب معناه: المواظبة؛ فكأن يوسف عليه السلام قد طلب أن يزرع أهل مصر بدأبٍ وبدون كسل. ويتابع: "... فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)". أي: ما تحصدونه نتيجة الزرع بجد واجتهاد؛ فلكم أن تأكلوا القليل منه، وتتركوا بقيته محفوظًا في سنابله. والحفظ في السنابل يعلمنا قدر القرآن، وقدرة من أنزل القرآن سبحانه، وما آتاه الله جل علاه ليوسف عليه السلام من علم في كل نواحي الحياة، من اقتصاد ومقومات التخزين، وغير ذلك من عطاءات الله، فقد أثبت العلم الحديث أن القمح إذا خزن في سنابله؛ فتلك حماية ووقاية له من السوس. وبعض العلماء قال في تفسير هذه الآية: "إن المقصود هو تخزين القمح في سنابله وعيدانه". وأقول: إن المقصود هو ترك القمح في سنابله فقط؛ لأن العيدان هي طعام الحيوانات.
اختار يوسف منصب الأمانة على خزائن مصر، وقال للملك اجعلني مشرفاً على خزائن هذا البلد فإني حفيظ عليم وعلى معرفة تامة بأسرار المهنة وخصائصها (قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم). مرة أخرى تعلمنا هذه القصة هذا الدرس الكبير، وهو أن قدرة الله أكبر مما نتصور، فهو القادر بسبب رؤيا بسيطة يراها جبابرة الزمان أنفسهم أن ينقذ أمة كبيرة من فاجعة عظيمة، ويخلص عبده المخلص بعد سنين من الشدائد والمصائب أيضاً. فلابد أن يرى الملك هذه الرؤيا، ولابد أن يحضر الساقي عنده ويتذكر رؤياه في السجن، وترتبط أخيراً حوادث مهمة بعضها ببعض، فالله تعالى هو الذي يخلق الحوادث العظيمة من توافه الأمور.. أجل، ينبغي لنا توكيد ارتباطنا القلبي مع هذا الرب القادر.. بزوغ الحق لقد كان تفسير يوسف لرؤيا الملك منطقياً إلى درجة أنه جذب الملك وحاشيته إليه، إذ كان يرى أن سجيناً مجهولاً فسر رؤياه بأحسن تعبير وتحليل، من دون أن ينتظر أي أجر أو يتوقع أمراً ما.. كما أنه أعطى للمستقبل خطة مدروسة أيضاً.