وقيل «من» للتبيين، بمعنى: وكونوا أمة تأمرون، كقوله- تعالى- كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ. وقوله- تعالى- وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ معطوف على قوله: يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ من باب عطف الخاص على العام. وفائدة هذا التخصيص ذكر الدعاء إلى الخير عاما ثم مفصلا على هذين الوجهين وهما الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر، لأنهما أشرف ألوان الدعوة إلى الخير. وقوله: يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ المفعول فيه محذوف وكذلك في قوله: يَأْمُرُونَ ويَنْهَوْنَ والتقدير يدعون الناس إلى الخير ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر. وحذف المفعول للإيذان بظهوره. أو للقصد إلى إيجاد نفس الفعل. أى يفعلون الدعاء إلى الخير، أو لقصد التعميم أى يدعون كل من تتأتى له الدعوة. وقد ختم- سبحانه- الآية الكريمة بتبشير هؤلاء الداعين إلى الخير بالفلاح فقال وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ والفلاح هو الظفر وإدراك البغية. أى: وأولئك القائمون بواجب الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر هم الكاملون في الفلاح والنجاح، ولا يمكن أن يفلح سواهم ممن لم يقم بهذا الواجب الذي هو مناط عزة الجماعات والأفراد، وأساس رفعتهم وقوتهم وسعادتهم.
أقول: إن سبَّ آلهة المشركين وشعائر المشركين وغيرهم من الكفار الكتابيين أمر مطلوب شرعًا، ولكن إذا كان يؤدي إلى شيء أعظم منه نكرًا فإنه يُنهى عنه يقول الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿ وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ يعني الأصنام لا تسبوها ﴿ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ [الأنعام: 108] يعني عدوانًا منهم بغير علم، أما أنتم إذا سببتم آلهة المشركين فإنه بعدل وعلم، لكن سبهم لإلهكم عدوان بلا علم، فأنتم لا تسبوهم فيسبوا الله. إذًا نأخذ من هذه الآيات الكريمة أنه إذا كان نهي الإنسان عن منكر ما يوقع الناس فيما هو أنكر منه، فإن الواجب الصمت، حتى يأتي اليوم الذي يتمكن فيه من النهي عن المنكر ليتحول المنكر إلى معروف. ويُذكر أن شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- مرّ في الشام ومعه صاحب له على قوم من التتار- والتتار أمة معروفة تسلطت على المسلمين في سنة من السنوات، وحصل بهم فتنة كبيرة عظيمة - وهم يشربون الخمر فسكت وما نهاهم، فقال له صاحبه: لماذا لم تنه عن هذا المنكر؟ قال له: إن نهيناهم عن هذا الشيء ذهبوا يفسدون نساء المسلمين بالزنا، ويستبيحون أموالهم، وربما يقتلونهم، وشرب الخمر أهون، وهذا من فقهه - رحمه الله ورضي عنه -، فإذا كان الإنسان يخشى أن يزول المنكر ويتحول إلى ما هو أنكر منه؛ فإن الواجب الصمت.