ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه. فلا يقفن أحد في وسط الطريق، وقد مضى في الجهاد شوطا; يطلب من الله ثمن جهاده; ويمن عليه وعلى دعوته، ويستبطئ المكافأة على ما ناله! فإن الله لا يناله من جهاده شيء، وليس في حجة إلى جهد بشر ضعيف هزيل: إن الله لغني عن العالمين. وإنما هو فضل من الله أن يعينه في جهاده، وأن يستخلفه في الأرض به، وأن يأجره في الآخرة بثوابه: والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنكفرن عنهم سيئاتهم، ولنجزينهم أحسن الذي كانوا يعملون. فليطمئن المؤمنون العاملون على ما لهم عند الله، من تكفير للسيئات، وجزاء على الحسنات، وليصبروا على تكاليف الجهاد; وليثبتوا على الفتنة والابتلاء; فالأمل المشرق والجزاء الطيب، ينتظرانهم في نهاية المطاف، وإنه لحسب المؤمن حتى لو فاته في الحياة الانتصاف. ثم يجيء إلى لون من ألوان الفتنة أشرنا إليه في مطلع السورة: فتنة الأهل والأحباء، فيفصل في الموقف الدقيق بالقول الحازم الوسط، لا إفراط فيه ولا تفريط: ووصينا الإنسان بوالديه حسنا. وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما، إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون. القرآن الكريم - تفسير الطبري - تفسير سورة العنكبوت - الآية 6. والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين.. إن الوالدين لأقرب الأقرباء، وإن لهما لفضلا، وإن لهما لرحما; وإن لهما لواجبا مفروضا: واجب الحب والكرامة والاحترام والكفالة، ولكن ليس لهما من طاعة في حق الله، وهذا هو الصراط: ووصينا الإنسان بوالديه حسنا وإن جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما.. إن الصلة في الله هي الصلة الأولى، والرابطة في الله هي العروة الوثقى، فإن كان الوالدان مشركين فلهما الإحسان [ ص: 2723] والرعاية، لا الطاعة ولا الاتباع، وإن هي إلا الحياة الدنيا ثم يعود الجميع إلى الله.
( إِنَّ الله) - تعالى - ( لَغَنِيٌّ عَنِ العالمين) جميعا ، لأنه - سبحانه - لا تنفعه طاعة مطيع ، كما لا تضره معصية عاص ، وإنما لنفسه يعود ثواب المطيع وعليها يرجع عقاب المسئ. البغوى: ( ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه) له ثوابه ، " والجهاد ": هو الصبر على الشدة ، ويكون ذلك في الحرب ، وقد يكون على مخالفة النفس. وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ-آيات قرآنية. ( إن الله لغني عن العالمين) عن أعمالهم وعباداتهم. ابن كثير: وقوله: ( ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه) ، كقوله: ( من عمل صالحا فلنفسه) [ فصلت: 46] أي: من عمل صالحا فإنما يعود نفع عمله على نفسه ، فإن الله غني عن أفعال العباد ، ولو كانوا كلهم على أتقى قلب رجل [ واحد] منهم ، ما زاد ذلك في ملكه شيئا; ولهذا قال: ( ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه إن الله لغني عن العالمين). قال الحسن البصري: إن الرجل ليجاهد ، وما ضرب يوما من الدهر بسيف. القرطبى: قوله تعالى: ومن جاهد فإنما يجاهد لنفسه أي ومن جاهد في الدين وصبر على قتال الكفار وأعمال الطاعات ، فإنما يسعى لنفسه; أي ثواب ذلك كله له; ولا يرجع إلى الله نفع من ذلك إن الله لغني عن العالمين أي عن أعمالهم. وقيل: المعنى; من جاهد عدوه لنفسه لا يريد وجه الله فليس لله حاجة بجهاده.
إلي مرجعكم فأنبئكم بما كنتم تعملون.. ويفصل ما بين المؤمنين والمشركين، فإذا المؤمنون أهل ورفاق، ولو لم يعقد بينهم نسب ولا صهر: والذين آمنوا وعملوا الصالحات لندخلنهم في الصالحين.. وهكذا يعود الموصولون بالله جماعة واحدة، كما هم في الحقيقة; وتذهب روابط الدم والقرابة والنسب والصهر، وتنتهي بانتهاء الحياة الدنيا، فهي روابط عارضة لا أصيلة لانقطاعها عن العروة الوثقى التي لا انفصام لها. روى الترمذي عند تفسير هذه الآية أنها نزلت في سعد بن أبي وقاص - رضي الله عنه - وأمه حمنة بنت أبي سفيان، وكان بارا بأمه، فقالت له: ما هذا الدين الذي أحدثت؟ والله لا آكل ولا أشرب حتى ترجع إلى ما كنت عليه أو أموت، فتتعير بذلك أبد الدهر، يقال: يا قاتل أمه، ثم إنها مكثت يوما وليلة لم تأكل ولم تشرب، فجاء سعد إليها وقال: يا أماه لو كانت لك مائة نفس فخرجت نفسا نفسا ما تركت ديني، فكلي إن شئت، وإن شئت فلا تأكلي، فلما أيست منه أكلت وشربت فأنزل الله هذه الآية آمرا بالبر بالوالدين والإحسان إليهما، وعدم طاعتهما في الشرك. وهكذا انتصر الإيمان على فتنة القرابة والرحم; واستبقى الإحسان والبر، وإن المؤمن لعرضة لمثل هذه الفتنة في كل آن; فليكن بيان الله وفعل سعد هما راية النجاة والأمان.
المسألة الثانية: تدل الآية على أنه ليس في مكان وليس على العرش على الخصوص، فإنه من العالم ، والله غني عنه والمستغني عن المكان لا يمكن دخوله في مكان ؛ لأن الداخل في المكان يشار إليه بأنه ههنا أو هناك على سبيل الاستقلال ، وما يشار إليه بأنه ههنا أو هناك يستحيل أن لا يوجد لا ههنا ولا هناك وإلا لجوز [ ص: 30] العقل إدراك جسم لا في مكان ؛ وإنه محال. المسألة الثالثة: لو قال قائل ليست قادريته بقدرة ولا عالميته بعلم وإلا لكان هو في قادريته محتاجا إلى قدرة هي غيره ، وكل ما هو غيره فهو من العالم فيكون محتاجا وهو غني ، نقول: لم قلتم: إن قدرته من العالم ، وهذا لأن العالم كل موجود سوى الله بصفاته أي: كل موجود هو خارج عن مفهوم الإله الحي القادر المريد العالم السميع البصير المتكلم ، والقدرة ليست خارجة عن مفهوم القادر ، والعلم ليس خارجا عن مفهوم العالم. المسألة الرابعة: الآية فيها بشارة وفيها إنذار ، أما الإنذار فلأن الله إذا كان غنيا عن العالمين فلو أهلك عباده بعذابه فلا شيء عليه لغناه عنهم ، وهذا يوجب الخوف العظيم ، وأما البشارة فلأنه إذا كان غنيا ، فلو أعطى جميع ما خلقه لعبد من عباده لا شيء عليه لاستغنائه عنه ، وهذا يوجب الرجاء التام.
الإعراب: الواو استئنافيّة (بوالديه) متعلّق ب (وصّينا)، (حسنا) مفعول مطلق نائب عن المصدر فهو صفته على حذف مضاف أي إيصاء ذا حسن، الواو عاطفة (جاهداك) فعل ماض في محلّ جزم فعل الشرط اللام لام التعليل (تشرك) مضارع منصوب بأن مضمرة بعد اللام (بي) متعلّق ب (تشرك)، (ما) اسم موصول في محلّ نصب مفعول به، (لك) متعلّق بخبر ليس محذوفا، (به) متعلّق بحال من (علم) وهو اسم ليس مؤخر الفاء رابطة لجواب الشرط (لا) ناهية جازمة. والمصدر المؤوّل (أن تشرك) في محلّ جرّ باللام متعلّق ب (جاهداك). (إليّ) متعلّق بخبر مقدّم للمبتدأ مرجعكم الفاء عاطفة (ما) حرف مصدريّ.... والمصدر المؤوّل (ما كنتم... ) في محلّ جرّ بالباء متعلّق ب (أنبّئكم). جملة: (وصينا... وجملة: (إن جاهداك) لا محلّ لها معطوفة على الاستئنافيّة. وجملة: (تشرك... ) لا محلّ لها صلة الموصول الحرفيّ (أن) المقدّر. وجملة: {ليس لك به علم} لا محلّ لها صلة الموصول (ما). وجملة: (لا تطعهما... وجملة: (إليّ مرجعكم... ) لا محلّ لها استئناف بيانيّ. وجملة: (أنبّئكم... ) لا محلّ لها معطوفة على جملة إليّ مرجعكم. وجملة: (كنتم تعملون... ) لا محلّ لها صلة الموصول الحرفيّ (ما).
عبدَ الرحمن: إن الناظر في كلام الحق سبحانه يجد تكرار التذكير بأن عبادتك إنما تنفع بها نفسك، كما أن عصيانك أنت المتضرر به! قال عز وجل: ﴿ لاَ يُكَلِّفُ اللّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ ﴾ [البقرة: 286]. وقال سبحانه: ﴿ قَدْ جَاءكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ﴾ [الأنعام: 104]. وقال جل جلاله: ﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ﴾ [الزمر: 41]. وقال تعالى: ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ ﴾ [فصلت: 46]. وقال جل وعز: ﴿ وَمَن تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ ﴾ [فاطر: 18]. وقال سبحانه: ﴿ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ﴾ [النمل: 40]. وقال جل جلاله: ﴿ وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾ [العنكبوت: 6]. فسبحان الذي ﴿ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ﴾، سبحانك يا رب، أنت الغني ونحن الفقراء، أنت القوي ونحن الضعفاء، أنت العفو الرحيم ونحن المذنبون الجهلاء.. في الحديث القدسي: "يا عبادي، لو أنَّ أوَّلكم وآخركم وإِنْسَكم وجِنَّكم كانوا على أتقى قلبِ رجلِ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا.