[6] ففي الصرخة والقلق، نجد أن اللوحتين كلتاهما تعكسان حالة القلق الوجودي والاضطراب النفسي الذي يعاني منه مونش وتعاني منه الإنسانية ككل. نرى، نفس الجسر ونفس الدوّامات في السماء ونفس لون السماء والكنيسة والقوارب وغير ذلك من الهياكل، كل ذلك يُعيد ملامح الصرخة. لوحة "القلق" لـ"إدفارد مونش" (مواقع التواصل) الفرق بينهما، أن الصرخة تُركّز على حالة هلع ذاتية لمونش نفسه، فيما تركز لوحة "القلق" على حالة من القلق الوجودي واليأس الجماعي. بالتالي، فإن الشعور بالقلق والاضطراب في لوحة القلق أكثر شمولية. وهذا يسلّط الضوء على مرحلة مهمة من مرض مونش النفسي: وهي أنه إذا كان عاجزًا عن مساعدة نفسه، وهو ما ظهر في لوحة الصرخة، فإنه في "القلق" يعلن ألا أحد أيضًا يستطيع مساعدته إذا أن الجميع يسيرون برعب نحو هاوية محققة. حالة اليأس من الآخرين تلك، نرى أنها مُشتركة بين فان جوخ ومونش من حيث أن فان جوخ كان يائسًا من أن يُحبه أحد بسبب مرضه العقلي وفيما كانت نفسه تتوق للحب ويريد تكوين أسرة وإنجاب أطفال لم يجد امرأة جواره. نفس الحالة التي عاشها مونش. خطوات رسم لوحة فان جوخ بالاكريليك بطريقة سهله وسريعة - YouTube. "لم توجد أبدًا عقليّات عظيمة دون أنّ يمسّها الجنون" [7] ( أرسطو) بالنظر في حياة مونش وفان جوخ، فإننا نجد أربعة عوامل مشتركة بين الرسامين.
العامل الأول، هو الاضطراب الأسري الذي عانى منه كلاهما، سواءً مونش بفقدان أمه أو فان جوخ هو الآخر بفقدان أمه. العامل الثاني، أن الرسامين كليهما عانا عُزلة مُفرطة ووحدة وحاجة ماسة للاحتواء والحنان. تعلم كيف ترسم لوحة ليلة النجوم خطوة بخطوة , How to Paint the Starry Night STEP BY STEP - YouTube. العامل الثالث، أن الاضطراب الأسري الناجم عن فقد الأم وحالة الضياع كانت سبب إصابتهم باضطراب ثنائي القطب، وليس كما هو متوقع أن اضطراب ثنائي القطب مقترن بموهبتهم الفطرية في الرسم. العامل الرابع، أنَّ مِن رحم المأساة خرجت موهبة الرسم فقدَّما كلاهما أشهر اللوحات في التاريخ.
فعبّر التعبيريون في ألمانيا عن مخاوفهم ومآسي حيواتهم وأراضيهم بخطوط حادة مخيفة وألوان قاتمة وتصوير للعناصر بعيدا عن واقعية أشكالها، ثم جاء الانطباعيون برؤيتهم الشخصية للعالم من حولهم لكنها لم تخلُ من جماليات رقيقة، أما ما نجح في تنفيذه فان جوخ والذي على حد قوله أقبح ما رسم، لم تكن لوحة قبيحة لأنها منفذة بدون مهارة ولكن لأنها تترك إحساسا لاذعا في نفس من يراها، ربما كانت صراحته في توصيفها بالقبح مدخلا لفهم الفن الحديث بل والمعاصر، وكيف تحوّل من مجرد مشاهد تسر الناظرين إلى شيء يثير التفكير بل والتقزز والخوف أحيانا.
(2)(3) لوحة "ليلة مرصعة بالنجوم" لفان جوخ والتي يظهر فيها ميله لاستخدام الألوان الصارخة والإيحاء بالحركة (مواقع التواصل) صارع فان جوخ في حياته داخليا وخارجيا، علم أنه لا بديل له عن الفن لكي يحيا، لكنه لم يحتمل ثقل تلك الحياة، تصارعه الأوساط الفنية التي لا ترى لأعماله أي ثقل جمالي، فهو عشوائي وصارخ، ألوانه صاخبة ومتنافرة، ضربات فرشاته سميكة غير متجانسة، لا يمكن وصف تلك التراكيب اللونية والتشكيلية بالجمال تحديدا، فهي لوحات مثيرة للاهتمام وللحواس، لكنها تكتسب قيمة الجمال كلما تمعنت في النظر فيها، عند رؤية لمعة الشمس على حقول القمح، أو كيف تتحرك النجوم في ليل أزرق قاتم. لكي ينتج تلك التأثيرات البصرية والنفسية صارع فان جوخ عقله هو نفسه، فلقد عانى على مدار حياته من أمراض نفسية وعقلية جعلت فاعليته في المجتمع غير مستقرة، وإنتاجيته غير ثابتة، لكنه رغم ذلك أنتج مئات اللوحات في حياته، تنتقل موضوعاتها وأجواؤها من توصيف الريف الفرنسي الحالم والمدن الرومانسية إلى محاولات لتصوير قبح العالم وعدم استقراره، فالعالم في نهايات القرن التاسع عشر كان زوبعة غير متوقفة من القلق والفزع بالإضافة إلى القلق الذي احتل عقل فان جوخ، من خلال تلك السياقات وسياقات أوسع يمكننا فهم لماذا يمكن لفنان أن يصنع عملا قبيحا بكامل إرادته.