• قال الشوكاني: قوله تعالى (بَلِ الله يُزَكّى مَن يَشَاء) أي: ذلك إليه سبحانه، فهو العالم بمن يستحق التزكية من عباده، ومن لا يستحقها، فليدع العباد تزكية أنفسهم، ويفوضوا أمر ذلك إلى الله سبحانه، فإن تزكيتهم لأنفسهم مجرد دعاوى فاسدة تحمل عليها محبة النفس، وطلب العلوّ والترفع والتفاخر ومثل هذه الآية قوله تعالى (فَلَا تُزَكُّواْ أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى). (وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً) أي: لا يُترك لأحد من الأجر ما يوازن مقدار الفتيل. • الفتيل: ما يكون في شق النواة، وقيل: هو ما فتلت بين أصابعك. • والمراد من الآية أن الله لا يظلم أحداً شيئاً، وضرب المثل بالفتيل للقلة. فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى. • فالله لا يظلم أحداً لكمال عدله، والقاعدة: أن النفي إذا جاء منفياً عن الله فلا بد من إثبات ضده، وإلا فالنفي المحض لا كمال فيه. كقوله تعالى (ولا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً) لكمال عدله. وقوله سبحانه (لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ) لكمال حياته وقيوميته. (انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ) هذا تعجب من افترائهم وكذبهم، أي: انظر يا محمد كيف يختلقون الكذب في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه.
وقد رواه ابن جرير وغيره مرفوعا. قال ابن جرير: حدثني سليمان بن عبد الجبار ، حدثنا أبو عاصم ، حدثنا زكريا بن إسحاق ، عن عمرو بن دينار ، عن عطاء ، عن ابن عباس: ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) قال: هو الرجل يلم بالفاحشة ثم يتوب وقال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: إن تغفر اللهم تغفر جما وأي عبد لك ما ألما ؟! وهكذا رواه الترمذي ، عن أحمد بن عثمان أبي عثمان البصري ، عن أبي عاصم النبيل. ثم قال: هذا حديث حسن صحيح غريب ، لا نعرفه إلا من حديث زكريا بن إسحاق. وكذا قال البزار: لا نعلمه يروى متصلا إلا من هذا الوجه. ما معنى : فلا تزكوا انفسكم هو اعلم بمن اتقى. وساقه ابن أبي حاتم والبغوي من حديث أبي عاصم النبيل ، وإنما ذكره البغوي في تفسير سورة " تنزيل " وفي صحته مرفوعا نظر. ثم قال ابن جرير: حدثنا محمد بن عبد الله بن بزيع ، حدثنا يزيد بن زريع ، حدثنا يونس ، عن الحسن ، عن أبي هريرة - أراه رفعه -: ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) قال: " اللمة من الزنا ثم يتوب ولا يعود ، واللمة من السرقة ثم يتوب ولا يعود ، واللمة من شرب الخمر ثم يتوب ولا يعود " ، قال: " ذلك الإلمام ". وحدثنا ابن بشار ، حدثنا ابن أبي عدي ، عن عوف ، عن الحسن في قول الله: ( الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم) قال: اللمم من الزنا أو السرقة أو شرب الخمر ، ثم لا يعود.
(أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٤٩) انظر كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُّبِينًا (٥٠)). [النساء: ٤٩ - ٥٠]. (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ) نزلت هذه الآية في اليهود، حيث زكوا أنفسهم ومدحوها: بقولهم (وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ). وقولهم (وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُوداً أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ). وقولهم (وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً). • قال القرطبي: التزكية: التطهير والتبرية من الذنوب. • قوله تعالى (أَلَمْ تَرَ …) الاستفهام للتعجب والإنكار، والخطاب للرسول -صلى الله عليه وسلم- ولكل من يصح خطابه. • فلا يجوز للإنسان أن يزكي نفسه لقوله تعالى (فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) فمن زكى نفسه ومدحها فقد تشبه باليهود. (بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ) أي: المرجع في ذلك إلى الله عز وجل، لأنه عالم بحقائق الأمور وغوامِضها.
[box type="shadow" align="" class="" width=""]﴿ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ﴾ [النجم: 32] "" إن كنتَ متقيًا لله، فالله أعلم بك، ولا حاجة لأن تقول لله: إني فعلتُ وعملتُ! "" (العلامة ابن عثيمين رحمه الله). [/box] الشرح و الإيضاح ﴿فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ﴾ أي: تخبرون الناس بطهارتها على وجه التمدح ﴿هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى﴾ [فإن التقوى، محلها القلب، والله هو المطلع عليه، المجازي على ما فيه من بر وتقوى، وأما الناس، فلا يغنون عنكم من الله شيئا]. مصدر الشرح: تحميل التصميم
نهانا رُّبنا – تبارك وتعالى – عن تزكية أنفسنا، وذلك بمدح الواحد منَّا نفسه، وثنائه عليها، وذكر ما فعله من أفعال خير، من صلاةٍ وصوم، وزكاة، وحجٍّ وأمر بمعروف ونهي عن المنكر، وقد علَّل الله – تبارك وتعالى – للنهي عن التزكية بكونه العالم بمن اتقى " فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى " [النجم: 32]. ومن استحضر أن الله تعالى عالم به، مطَّلع على أعماله وأقواله فإنه يتواضع لله تبارك وتعالى، ويصغر في عينيه ما عمله، ويكون خائفاً دائماً أن لا يتقبل الله تعالى منه، وأن يضيع عمله، فيصبح عمله هباءً منثوراً، فإن العجب بالأعمال من محبطات الأعمال. والذي يعلم يقيناً أن الله تعالى يراه ويعلم بما كان منه من تقوى يطمئن إلى أن الله لا يضيع عمله، وسيجازيه به، قال تعالى: " وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالْمُتَّقِينَ " [آل عمران: 115]. قال: " لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمُ بِالْمُتَّقِينَ " [التوبة: 44]. وكما على العبد أن يكون دائماً على حذر أن يشغل نفسه بتزكية نفسه، فعليه أن يحذر من تزكية غيره، فقد يجرُّه ذلك إلى نوع من التملق والنفاق، وقد تنفخ تلك التزكية العظمة والعجب فيمن زكيته، فيقطع المرء بتزكيته عنق صاحبه.
وأما قوله تعالى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا {الشمس: 9} فمعناها كما قال أهل التفسير: قد فاز من أصلح نفسه وطهرها من الشرك والمعاصي وسائر أمراض القلوب والأخلاق الدنيئة ، ومما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها. وبذلك تعلم أنه لا تعارض بين الآيتين حتى يجمع بينهما لعدم تواردهما على معنى واحد. والله أعلم.