فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) وقوله: ( فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) يقول: فأما من ثقُلَت موازين حسناته، يعني بالموازين: الوزن، والعرب تقول: لك عندي درهم بميزان درهمك، ووزن درهمك، ويقولون: داري بميزان دارك ووزن دارك، يراد: حذاء دارك. قال الشاعر: قــدْ كُــنْتُ قَبْـلَ لِقـائِكُمْ ذَا مِـرَّة عِنــدِي لِكُــلِّ مُخــاصِمٍ مِيزَانُـهُ (1) يعني بقوله: لكلّ مخاصم ميزانه: كلامه، وما ينقض عليه حجته. وكان مجاهد يقول: ليس ميزان، إنما هو مثل ضرب.
قوله تعالى: فأما من ثقلت موازينه فهو في عيشة راضية وأما من خفت موازينه فأمه هاوية وما أدراك ما هيه نار حامية قد تقدم القول في الميزان في ( الأعراف والكهف والأنبياء). وأن له كفة ولسانا توزن فيه الصحف المكتوب فيها الحسنات والسيئات. ثم قيل: إنه ميزان واحد بيد جبريل يزن أعمال بني آدم ، فعبر عنه بلفظ الجمع. وقيل: موازين ، كما قال: ملك تقوم الحادثان لعدله فلكل حادثة لها ميزان وقد ذكرناه فيما تقدم. فأما من ثقلت موازينه. وذكرناه أيضا في كتاب ( التذكرة) وقيل: إن الموازين الحجج والدلائل ، قاله عبد العزيز بن يحيى ، واستشهد بقول الشاعر: قد كنت قبل لقائكم ذا مرة عندي لكل مخاصم ميزانه ومعنى فهو في عيشة راضية أي عيش مرضي ، يرضاه صاحبه. وقيل: عيشة راضية أي فاعلة للرضا ، وهو اللين والانقياد لأهلها. فالفعل للعيشة لأنها أعطت الرضا من نفسها ، وهو اللين والانقياد. فالعيشة كلمة تجمع النعم التي في الجنة ، فهي فاعلة للرضا ، كالفرش المرفوعة ، وارتفاعها مقدار مائة عام ، فإذا دنا منها ولي الله اتضعت حتى يستوي عليها ، ثم ترتفع كهيئتها ، ومثل الشجرة فرعها ، كذلك أيضا من الارتفاع ، فإذا اشتهى ولي الله ثمرتها تدلت إليه ، حتى يتناولها ولي الله قاعدا وقائما ، وذلك قوله تعالى: قطوفها دانية.
وجمهور القراء أثبتوا النطق بهذه الهاء في حالتي الوقف والوصل ، وقرأ حمزة وخلف بإثبات الهاء في الوقف وحذفها في الوصل. وجملة نار حامية بيان لجملة وما أدراك ما هيه ، والمعنى: هي نار حامية. ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ - موقع العلامة الإنساني محمد أمين شيخو قدس سره. وهذا من حذف المسند إليه الذي اتبع في حذفه استعمال أهل اللغة. ووصف ( نار) بـ ( حامية) من قبيل التوكيد اللفظي; لأن النار لا تخلو عن الحمي فوصفها به وصفا بما هو معنى لفظ ( نار) فكان كذكر المرادف كقوله تعالى: نار الله الموقدة.
فإن قيل: قد قال: " من ثقلت موازينه " ذكر بلفظ الجمع ، والميزان واحد ؟ قيل: يجوز أن يكون لفظه جمعا ومعناه واحد كقوله: " يا أيها الرسل " وقيل: لكل عبد ميزان ، وقيل: الأصل ميزان واحد عظيم ، ولكل عبد فيه ميزان معلق به ، وقيل جمعه ؛ لأن الميزان يشتمل على الكفتين والشاهدين واللسان ، ولا يتم الوزن إلا باجتماعها. ﴿ تفسير الوسيط ﴾ ثم بين- سبحانه- مظاهر عدله مع عباده يوم القيامة فقال:وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ، فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ. الوزن: عمل يعرف به قدر الشيء، يقال: وزنته وزنا وزنة. وهو مبتدأ، ويومئذ متعلق بمحذوف خبره. القران الكريم |فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ. والحق صفته. أى: والوزن الحق يوم القيامة. ومعنى الآيتين الكريمتين: والوزن الحق ثابت في ذلك اليوم الذي يسأل الله فيه الرسل والمرسل إليهم. ويخبرهم جميعا بما كان منهم في الدنيا، فمن رجحت موازين أعماله بالإيمان والعمل الصالح، فأولئك هم الفائزون بالثواب والنعيم، ومن خفت موازين أعماله بالكفر والمعاصي فأولئك الذين خسروا أنفسهم بسبب ما اقترفوا من سيئات أدت بهم إلى سوء العقاب.
الخطبة الأولى: الحمد لله خلق الإنسان، وأنزل الفرقان، ووضع الميزان، وفتح لعباده الجنان، وحذرهم خطوات الشيطان، نحمده ونشكره، ومن كل ذنب بن نستغفره. ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. ونشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا. أما بعد: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الحشر: 18]. إخوة الإسلام: كما تُعظّم موازين الدنيا في البيع والشراء، وجمع المال وحياة النفائس، فعظموها في الآخرة وحين قيام الناس لرب العالمين في تكثير الحسنات، وجمع الأجور التي تثقّل الموازين يوم القيامة. يا ليت ميزانَ الأجور يَضُمنا *** ويُغيثنا من فيضهِ المذخورِ حسناتُ ترجحُ ك بالجبال وثِقلها *** يا ربِّ من فضلٍ لكم منضورِ قال عز وجل: ( فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ) [القارعة: 6-7] أي ثقلت بالأعمال الصالحة، ورجٍحت الحسناتُ بالسيئات، وهو ميزان حق وعدل؛ كما قال عز وجل: ( وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا) [الأنبياء: 47].
فيوم القيامة يوم عظيم يحاسب فيه العباد، وتنشر فيه الموازين، ويعطى المؤمن كتابه بيمينه والكافر كتابه بشماله، ولهذا قال سبحانه: الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ [القارعة:1-4] كالجراد ونحوه كالدبا ونحوه هذه الطيور الصغيرة المنتشرة في الأرض إذا اجتمعت يموج بعضه في بعض. وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ [القارعة:5] الصوف المنفوش بعد قوتها وصلابتها العظيمة تكون كالعهن المنفوش، وتكون كالهباء، وتسير وتزول عن أماكنها وتبقى الأرض خالية من ذلك. ثم قال سبحانه: فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ [القارعة:6] في ذلك اليوم يوم القيامة يوم الحشر يوم الجمع يوم التغابن فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [القارعة:7]، يعني من ثقلت موازينه يعني: بالحسنات والأعمال الصالحات فهو في عيشة راضية، يعني: فله السعادة والخير العظيم وسوف يكون إلى الجنة في عيشة راضية في نعيم مقيم. وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ [القارعة:8] بسبب كفره وضلاله وعدم إيمانه فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ [القارعة:9] يعني: النار نعوذ بالله، ولهذا قال بعده: وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ [القارعة:10-11].
في سورة القارعة الكريمة يبيِّن لنا سبحانه وتعالى شأن ذلك اليوم الذي تقع فيه الصيحة، فيقف الخلق جميعاً بين يديه سبحانه. وهنالك يتقرر المصير ويكون الفصل بين الشقي والسعيد، ففريقٌ في الجنَّة، وفريقٌ في السعير، ويقف الناس يومئذ عامّة بين يدي الله سبحانه على صعيد واحد للحساب، ويؤتى بالنبيين والشهداء، وتبدو لكل إنسان أعماله التي أسلفها في حياته الدنيا، وتخشع الأصوات للرحمن، فلا تسمع إلا همساً، وتعنو الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً، وتوضع الموازين القسط لذلك اليوم العظيم، وتوزن لكل امرئ أعماله، ويخاف الناس، وتَجِلُ القلوب. وقد أشارت إلى طرف من ذلك الآية الكريمة في قوله تعالى: ﴿فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ، فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ﴾ والموازين: جمع ميزان. وثِقلُ الميزان إنما يكون على حسب ما يوضع فيه من عمل ثقيل. ويكون العمل الثقيل ثقيلاً على حسب ما فيه من نيَّةٍ صادقة وإخلاص. فالعمل الذي يريد به صاحبه وجه الله تعالى، ولا يبتغي من ورائه فائدةً دنيوية ولا منفعة شخصية، هذا العمل يكون ثقيلاً لما انطوى عليه من الصدق، ولما ينشأ عنه من الخير. فقد يتكلم الإنسان بكلمةٍ تكون سبباً في هداية شخص، ومن ورائه أشخاص كثيرون، فهذه الكلمة إنما هي ثقيلة عند الله لما يتولد عنها من الخيرات.