ومثل هذا القول يرد عليه بما سبق في الآيتين الكريمتين السابقتين من سورة الإسراء ، وبقوله تعالى أيضا في سياق الحديث عن الذين لا يرجون لقاءه أي لا يؤمنون بالبعث أو بالآخرة وبطبيعتها الجزائية: (( وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعناه هباء منثورا)) أي لا اعتبار له في الآخرة ،لأنهم كانوا يريدون به الدنيا فقط ، وقد نالوا حظوظهم منها حسب ما شاء الله عز وجل لمن أراد منهم دون أن يبخسوا شيئا كما جاء في قول تعالى أيضا: (( من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها وهم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار وحبط ما صنعوا فيها وباطل ما كانوا يعملون)). فليس بعد هذا الذي ذكره الله عز وجل أن يجادل مجادل في أعمال من عملوا للدنيا فقط ولكن يريدون لها جزاء أو مقابلا في الآخرة التي لا يؤمنون بها أصلا بله يؤمنون بجزائها ؟ وأصحاب هذا الجدل يزعمون أن ما يحظى به من يعملون للدنيا فقط دون قناعة بوجود الآخرة من عيش خفض أو بحبوحة عيش هو دليل على رضا الخالق عنهم، علما بأن هؤلاء منهم من ينكرون وجوده أصلا، ومنهم من يعتبرونه موجودا لكنهم يعطلون إرادته تعالى عما يصفون علوا كبيرا ، ومنهم من لا رأي لهم في وجوده أو عدمه ،لأنهم يقصرون همهم على خوض غمار الحياة الدنيا مع إنكار طبيعتها الاختبارية وإنكار الطبيعة الجزائية للآخرة.
وقسم علم أن الفوز الحق هو فيما بعد هذه الحياة; فعمل للآخرة مقتفيا ما هداه الله إليه من الأعمال بواسطة رسله ، وأن الله عامل كل فريق بمقدار همته. فمعنى كان يريد العاجلة أنه لا يريد إلا العاجلة ، أي دون الدنيا بقرينة مقابلته بقوله ومن أراد الآخرة; لأن هذه المقابلة تقوم مقام الحصر الإضافي إذ ليس الحصر الإضافي سوى جملتين إثبات لشيء ، ونفي لخلافه ، والإتيان بفعل الكون هنا مؤذن بأن ذلك ديدنه وقصارى همه ، ولذلك جعل [ ص: 59] خبر ( كان) فعلا مضارعا; لدلالته على الاستمرار زيادة تحقيق لتمحض إرادته في ذلك. و العاجلة صفة موصوف محذوف يعلم من السياق ، أي الحياة العاجلة ، كقوله من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها نوف إليهم أعمالهم فيها والمراد من التعجيل التعجيل العرفي ، وهو المبادرة المتعارفة ، أي أن يعطى ذلك في الدنيا قبل الآخرة ، فذلك تعجيل بالنسبة إلى الحياة الدنيا ، وقرينة ذلك قوله فيها ، وإنما زاد قيدي ( ما نشاء لمن نريد); لأن ما يعطاه من أرادوا العاجلة يعطاه بعضهم بالمقادير التي شاء الله إعطاءها. والمشيئة: الطواعية ، وانتفاء الإكراه. وقوله لمن نريد بدل من قوله له بدل بعض من كل بإعادة العامل ، فضمير له عائد إلى من باعتبار لفظه ، وهو عام لكل مريد العاجلة فأبدل منه بعضه ، أي عجلنا لمن نريد منكم ، ومفعول الإرادة محذوف دل عليه ما سبقه ، أي لمن نريد التعجيل له ، وهو نظير مفعول المشيئة الذي كثر حذفه لدلالة كلام سابق ، وفيه خصوصية البيان بعد الإبهام ، ولو كان المقصود غير ذلك لوجب في صناعة الكلام التصريح به.
Home » Islam » حديث الجمعة: – من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد – حديث الجمعة: (( من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد)) محمد شركي تحدث الله عز وجل في محكم التنزيل عن تعامله مع خلقه فيما بخص حظوظهم من الحياتين العاجلة الزائلة ، والآجلة الدائمة. وأخبر أن حظوظهم منهما تكون وفق ما يريدون. وهم في نهاية الأمر صنفان: صنف يرغب في الحصول على حظه من العاجلة وهو منكر لوجود حظ له في الآجلة بل منكر لهذه الأخيرة أيضا ، وهذا الصنف يعجل له الله تعالى حظه من العاجلة وفق مشيئته وإرادته سواء وسع عليه في ذلك أم لم يوسع عليه ، وصنف يرغب في الحصول على حظه منهما معا ، وهو يعتقد بأن خالقه قد جعل له حظا في الآجلة كما خصّه بحظ في العاجلة. وهذا ما جاء في محكم التنزيل في قوله تعالى: (( من كان يريد العاجلة عجّلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها وهو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا)). ففي هاتين الآيتين من سورة الإسراء، كشف الله عز وجل نوعين من السعي يسعاهما الناس في هذه الحياة الدنيا ،سعي تطلب به حظوظ الدنيا لا يجاوزها إلى حظوظ الآخرة ،هو سعي من لا يعتقدون بوجود الآخرة ، ولا بوجود علاقة بينها وبين سعيهم في الدنيا ، وسعي آخر في الدنيا لكن يراد به الآخرة ، وهو سعي من يعتقدون بوجود هذه الأخيرة ، وبوجود علاقة بينها وبين سعيهم في الدنيا.
تلاوة قصيرة... من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها مانشاء#قرآن_كريم - YouTube
{ مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا * انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلا} [ الإسراء 18-21]. الدنيا فيها الغني و فيها الفقير و من هم ( بين بين) الخلق فيها درجات بين عال و متوسط و ضعيف الحال و محتاج و مسكين. و كذا الآخرة درجات و العلو فيها و الرفعة لأهل الله أتباع الرسل الطائعين لأمر ربهم و المنتهين عن نهيه و العاملين بما في كتبه. فإن كان ثم تفاوت في درجات الدنيا فالتفاوت في الآخرة أشد وأكبر. فهناك أهل الفردوس و من هم أدنى منهم درجات و هناك أهل الأعراف كما أن هناك أيضاً أهل النار و هي دركات كما أن الجنة درجات. فمن اشترى نعيم العاجلة و نسي الآخرة و درجاتها وتلهى عنها بعطاء الدنيا و استعجل النعيم فاغتر بما في يده فقد باع ما هو أثمن و أولى و أعلى من النعيم المقيم الدائم السرمدي و الذي لا يقارن بحال بنعيم الدنيا و لذاتها.
• وقال الشوكاني: هذا كلام مستأنف يتضمن الحث على الجهاد والإعلام بأن الموت لابد منه. كما قال تعالى (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ). (وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا) أي: من أراد بعمله الدنيا وأعراضها ومتاعها أعطاه الله عز وجل ما قسم له من ذلك، ولا يكون له نصيب في الآخرة. • وقد جاءت آيات في هذا المعنى: قال تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ. أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). وقال تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيب). وقال تعالى (فمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ …).
وإذا كان الأمر يتعلق بتكريم للإنسان، فإن من الطبيعي أن تختلف درجات التكريم تبعاً لاختلاف درجات الإيمان والعمل، لأن {أَنِّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى} {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ* وَمَن يَعْـمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة:7ـ8] مما يوحي بأن الخير هناك تابعٌ لحجم العمل في الكمية والنوعية هنا.