…ثم يذكر سبحانه الغاية من التسبيح، فيقول {لَعَلَّكَ ترضى} [طه: 130] ونلحظ أن الحق سبحانه يحثُّ على العمل بالنفعية، فلم يقُل: لعلِّي أرضى، قال: لعلك أنت ترضى، فكأن المسألة عائدة عليك ولمصلحتك. والرضا: أنْ تصلَ فيما تحب إلى ما تؤمِّل، والإنسان لا يرضى إلا إذا بلغ ما يريد، وحقّق ما يرجو، كما تقول لصاحبك: أأنت سعيد الآن؟ يقول: يعني: يقصد أنه لم يصل بعد إلى حَدِّ الرضا، فإنْ تحقَّق له ما يريد يقول لك: سعيد والحمد لله. الطور الآية ٤٨At-Tur:48 | 52:48 - Quran O. فإنْ أحسنتَ إليه إحساناً يفوق ما يتوقعه منك يأخذك بالأحضان ويقول: ربنا يُديم عمرك، جزاك الله خيراً. إذن: رضا الإنسان له مراحل؛ لذلك فالحق سبحانه وتعالى يقول في الحديث القدسي كما روى النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ: «إن الله يتجلى على خَلْقه في الجنة: يا عبادي هل رضيتم؟ فيقولون: وكيف لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تُعْطِ أحداً من العالمين، قال: أعطيكم أفضل من ذلك، قالوا: يا رب، وهل يوجد أفضل من ذلك؟ قال: نعم، أُحِلُّ عليكم رضواني فلا أسخط بعده عليكم أبداً». وهكذا يكون الرضى في أعلى مستوياته. الغاية من التسبيح إذن الذي كلّفك ربك به أنْ ترضى أنت، وأن يعودَ عليك بالنفع، وإلا فالحق سبحانه مُسبَّح قبل أن يخلق، أنت مُسبّح قبل أن يخلق الكون كله، ولا يزيد تسبيح في ملكه تعالى شيئاً.
{يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} أي: لا قليلًا ولا كثيرًا، وإنْ كانَ في الدُّنيا قد يُوجَدُ منهم كيدٌ يعيشونَ بهِ زمنًا قليلًا فيومَ القيامةِ يضمحلُّ كيدُهم، وتبطلُ مساعيهم، ولا ينتصرونَ مِن عذابِ اللهِ {وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ}. قالَ اللهُ تعالى: {وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا} الآياتِ: لمَّا ذكرَ اللهُ عذابَ الظَّالمِينَ في القيامةِ، أخبرَ أنَّ لهم عذابًا قبلَ عذابِ يومِ القيامةِ وذلكَ شاملٌ لعذابِ الدُّنيا، بالقتلِ والسَّبي والإخراجِ مِن الدِّيارِ، ولعذابِ البرزخِ والقبرِ، {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} أي: فلذلكَ أقامُوا على ما يوجبُ العذابَ، وشدَّةَ العقابِ. ولـمَّا بيَّنَ تعالى الحججَ والبراهينَ على بطلانِ أقوالِ المكذِّبينَ، أمرَ رسولَهُ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ألَّا يَعبأَ بهم شيئًا، وأنْ يصبرَ لحكمِ ربِّهِ القدَريِّ والشَّرعيِّ بلزومِهِ والاستقامةِ عليهِ، ووعدَهُ اللهُ بالكفايةِ بقولِهِ: {فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} أي: بمرأىً منَّا وحفظٍ واعتناءٍ بأمرِكَ، وأمرَهُ أنْ يستعينَ على الصَّبرِ بالذِّكرِ والعبادةِ، فقالَ: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ} أي: مِن اللَّيلِ.
لذلك؛ فالحق سبحانه وتعالى يعطينا زمن التسبيح، فنعيشه في كل الوقت {قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النهار} [طه: 130]. … يقول بعض العارفين في نصائحه التي تضمن سلامة حركة الحياة: " اجعل مراقبتك لمن لا تخلو عن نظره إليك " فهذا الذي يستحق المراقبة، وعلى المرء أنْ يتنبه لهذه المسألة، فلا تُكنْ مراقبته لمن يغفل عنه، أو ينصرف، أو ينام عنه. " واجعل شكرك لمن لا تنقطع نعمه عنك " فإذا شربتَ كوب ماءٍ فقُلْ: الحمد لله أن أرواك، فساعةَ تشعر بنشاطها في نفسك قل: الحمد لله. وساعةَ أنْ تُخرجها عرقاً أو بولاً قل: الحمد لله، وهكذا تكون موالاة حمد الله، والمداومة على شُكْره. " واجعل طاعتك لمن لا تستغني عنه " فطالما أنك لا تستغني عنه، فهو الأَوْلَى بطاعتك. " واجعل خضوعك لمن لا تخرج عن مُلْكه وسلطانه " وإلاَّ فأين يمكنك أن تذهب؟ ما سر الإطلاق في آناء الليل والتقييد بأطراف النهار ؟ لماذا أطلق زمن التسبيح بالليل، فقال {آنَآءِ الليل} [طه: 130] وحدده في النهار فقال {وَأَطْرَافَ النهار} [طه: 130] ؟ قالوا: لأن النهار عادة يكون محلاً للعمل والسَّعْي، فربما شغلك التسبيح عن عملك، وربنا يأمرنا أن نضربَ في الأرض ونُسهِم في حركة الحياة، والعمل يُعين على التسبيح، ويُعين على الطاعة، ويُعينك أنْ تلبي نداء: الله أكبر… أمّا في الليل فأنت مستريح، يمكنك التفرغ فيه لتسبيح الله في أيِّ وقت من أوقاته.
{أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} ما كانُوا يعلمونَهُ مِن الغيوبِ، فيكونونَ قد اطَّلعُوا على ما لم يطِّلعْ عليهِ رسولُ اللهِ، فعارضُوهُ وعاندُوهُ بما عندَهم مِن علمِ الغيبِ؟ وقد عُلِمَ أنَّهم الأمَّةُ الأمِّيَّةُ الجهَّالُ الضَّالُّونَ، ورسولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- هوَ الَّذي عندَهُ مِن العلمِ أعظمُ مِن غيرِهِ، وأنبأَهُ اللهُ مِن علمِ الغيبِ على ما لم يطَّلعْ عليهِ أحدٌ مِن الخلقِ، وهذا كلُّهُ إلزامٌ لهم بالطُّرقِ العقليَّةِ والنَّقليَّةِ على فسادِ قولِهم، وتصويرُ بطلانِهِ بأحسنِ الطُّرقِ وأوضحِها وأسلمِها مِن الاعتراضِ. وقولُهُ: {أَمْ يُرِيدُونَ} بقدحِهم فيكَ وفيما جئْتَهم بهِ {كَيْدًا} يُبطِلونَ بهِ دينَكَ، ويفسدونَ بهِ أمرَكَ؟ {فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ} أي: كيدُهم في نحورِهم، ومضرَّتُهُ عائدةٌ إليهم، وقد فعلَ اللهُ ذلكَ -وللهِ الحمدُ- فلم يبقَ الكفَّارُ مِن مقدورِهم مِن المكرِ شيئًا إلَّا فعلُوهُ، فنصرَ اللهُ نبيَّهُ عليهم وأظهرَ دينَهُ وخذلَهم وانتصرَ منهم.