ولم يعتبر "المعارضون" أنفسهم خونة، حين عقدوا اتفاقات كثيرة مع الهاغاناه، وباعوهم الأراضي، وقدموا إليهم معلوماتٍ مكّنتهم من اختراق صفوف الفلسطينيين، بل اعتقدوا أنهم وطنيون، يعارضون مغامرات مفتي فلسطين في قتال البريطانيين واليهود معاً، ورأوا أن إنقاذ فلسطين إنما يكون بالتعاون مع البريطانيين والملك عبدالله، وبالتفاهم مع اليهود. وهذه الرؤية هي التي جعلت فخري النشاشيبي وفخري عبدالهادي يُقدمان على تأليف "وحدات السلام"، للوقوف في وجه أنصار الحاج أمين الداعين إلى قتال الصهيونيين. كان كامل الحسين من أنصار الملك عبدالله، ومن جماعة فخري النشاشيبي. والمعروف أنه أسس فرعاً لجمعية الشبان العرب في صفد في 21/8/1933. وكان يرأس الجمعية يعقوب الغصين أحد بائعي الأراضي من اليهود. وقصة بيع الأراضي من القصص المخزية في التاريخ الفلسطيني الحديث. وظلت الرواية الفلسطينية التقليدية تكرّر أن مَن باع الأراضي هم بعض العائلات اللبنانية والسورية، أمثال سلام وقباني وسرسق وتويني وتيان واليوسف والجزائرلي وغيرها. أشباه حسين كامل والعدالة النائمة. لكن الإيغال في هذه الدروب المتشابكة يؤدي بنا إلى فضائح مدوية وصادمة.
بالأمس يأتي القدر بالمجرم حسين كامل, من مجرد شرطي بائس, إلى وزير للصناعة ورتب عسكرية, فقط لأنه اقترن بابنة صدام, ليكون البلد تحت يد شرطي الأمس, إلى إن أكمل القدر لعبته, وأحاطت به خطيئته, وقتل على يد أهله, صورة اليوم متشابه كثيرا, من عدة نواحي, والشبه الأكبر التحكم بمقدرات البلد من قبل بطانة ملك الفضاء, شركات ومكاتب وصحف, ومؤسسات خيرية ونفوذ في اخطر المؤسسات الحكومية, وأرقام فلكية لحسابات مصرفية, كلها تجعل من هؤلاء وحش يصعب الاقتراب منه, هكذا أنتج لنا غزو الفضاء. أشباه حسين كامل شر مطلق, لا يمكن الاطمئنان لبقائهم, فهم بوابة الفساد التي كادت تبتلع العراق, ٦٠٠ مليار دولار ضاعت بفعل منظومة الفساد, التي لم تعطنا إلا سرابا, وأخذت كل شيء, وشر هؤلاء لم يتوقف عند حد السرقة, بل كان فن تسقيط الآخرين, هواية يمارسوها, عبر الصحف والقنوات التي يملكوها, بالإضافة لشرائهم الأقلام الرخيصة لبث السموم, وما حملتهم الأخيرة على قادة التغيير, إلا دليل استمرار منظومة الفساد بالتأثير والعمل, أجد إن عملية فتح ملفات الأمس, وملاحقتهم قضائياً, أمر أساسي لإنقاذ حاضرنا. إننا اليوم بحاجة ماسة, لإسقاط (حسين كامل) مرة أخرى, فالحاضر سيضيع من بين أيدينا, إن استمرت العدالة نائمة.
ولمّا رفض الحسين الصعود إلى السيارة العسكرية التي كانت بإمرة النقيب أكرم طبارة، وقاوم مختطفيه، بادر الراعي متعب شتيوي، وهو من المجموعة الخاطفة، إلى إطلاق النار، فقُتل كامل الحسين ومرافقه عوض يوسف سعيد وسائق سيارته أحمد الحلبي. ودفن القتيل في مقبرة بلدة الخيام اللبنانية الجنوبية. علي حسين كامل مترجم. غرام وانتقام انتهت قصة كامل الحسين بمصرعه، لكن قصة زوجته، جولييت خوري، بدأت على الفور. فقد تزوجت شقيقه محمود، وأنجبت له ابنة تدعى آمال اليوسف التي نُشر كتاب باسمها عنوانه "كامل الحسين: زعيم الحولة والجيرة" (بيروت: دار الفارابي، 2012). وسَرَت شبهات كثيرة في شأن تردد جولييت خوري على إسرائيل في خمسينيات القرن المنصرم، وكانت تتذرع بأن زوجها كامل الحسين ترك كنزاً من الليرات الذهبية مطموراً في مكان ما في بلدة الخالصة، وأنها تحاول العثور عليه. وكان لها منزل في بيروت، يعج بجميع صنوف البشر من سياسيين متنفذّين وسماسرة أراضٍ واستخبارات ومغامرين وقانصي متعة وسهر. وقد فضح ذلك كله الأديب سعيد تقي الدين، حين كان على رأس جمعية "كل مواطن خفير" التي كانت غايتها مطاردة الجواسيس، وكل من يتعامل مع إسرائيل من أفراد ومؤسسات، وتقديم المعلومات عن ذلك إلى السلطات اللبنانية والسورية.
حين نشر نمر الهواري زعيم منظمة النجادة الفلسطينية كتابه "النكبة" في إسرائيل، وروى فيه تاريخه الشقي في التعاون مع الصهيونيين، صُدم كثيرون، مع أن نمر الهواري وقبله موسى هديب (مؤسس حزب الزراع، والذي اغتيل في سنة 1925) كانا معروفين في هذه الجناية. وفي ما بعد، كشفت وثائق محفوظة في الأرشيف الصهيوني أن حسن سلامة أحد قادة الحرب في سنة 1948 كان اشترى أسلحة لمصلحة الهاغاناه في سنة 1936، وأن سامي طه، شهيد الحركة العمالية الفلسطينية الذي اغتيل في 11/9/1947، تعاون مع دافيد هاكوهين، وساعده في ذلك حنا عصفور، لحماية العمال اليهود في محاجر شركة "نيتشر" في حيفا سنة 1936، وأن أرملة سامي طه فرّت، مع ابنها، إلى دمشق غداة اغتيال زوجها، وظل هاكوهين يرسل إليها راتباً شهرياً إلى دمشق من صندوق الرعاية التابع لشركة "سوليل بونيه". علي حسين كامل عن. من المؤكد أن كامل الحسين قُتل من دون تخطيط، وجاء مقتله من غير قصد؛ فالمخابرات السورية آنذاك لم تكن تريد اغتياله، بل اعتقاله. لكن الردى كان أسرع. وبذلك الموت ذهبت أسرار كثيرة مع هذا الرجل الوسيم الذي تزوج امرأة جميلة، امتلكت بدورها أسراراً مثيرة عن تلك الحقبة. وكان كامل الحسين سمساراً للوكالة اليهودية بلا ريب، ومتعاوناً مع الهاغاناه بلا شك ، ومعادياً للتيار الوطني الفلسطيني بزعامة الحاج أمين الحسيني بكل تأكيد.
وفي النهاية، قتلته بالسم في أبريل/نيسان 1955، وهذا ما باح به لصديقه إميل شختورة في مستشفى الجامعة الأميركية في بيروت قبيل وفاته، وأخبره أنه أكل كبة وورق عنب، واحتسى الويسكي في منزل جوليا خوري، ولم يلبث أن شعر بأوجاع تقطّع أمعاءه، فنقل إلى المستشفى. أما سعيد تقي الدين فكتب عن الحادثة مقالات عدة جمعها، في ما بعد، جان دايه، وأصدرها في كتاب "كل مواطن خفير" (بيروت، دار فجر النهضة، 2000). كامل الحسين.. وطني أم عميل؟. أما جوليا خوري فلم تثبت عليها تهمة القتل والعمالة، لكنها اعتصمت بالعزلة منذ ذلك الوقت، وعاشت أرملة ومطلقة، إذ لم يطل الأمر كثيراً حتى انفصلت عن زوجها محمود حسين اليوسف. غسيل التاريخ حاولت آمال محمود اليوسف في الكتاب الذي نشر باسمها، "كامل الحسين: زعيم الحولة والجيرة"، تخليص عمها والزوج السابق لأمها من العار الذي لحق به، وتنظيف اسمه من تهمة العمالة، فراحت تصفه بـ"الشهيد"، وتنقل عن بعض الذين عرفوه مدائح عن سخائه، غير أن هذه المرويات، في معظمها، شفهية، ومصدرها أنصار كامل الحسين، أمثال كامل الزغموت وعزيز الصالح، وهي روايات لا يمكن قبولها، لانحيازها وعدم نزاهتها العلمية. فتاريخ كامل الحسين يهزأ من هذه المحاولات الساذجة في تزييف الوقائع والحوادث وتبييض صفحته.