وأقام أشهراً ثم وفد على أخيه بوفد من أشراف أهل مصر. واستخلف على مصر عبد الله بن قيس بن الحارث بن عياش بن ضبيع التجيبي، أحد بني زميلة، وكانت أمه أخت أبي الأعور السلمي. وكانت فيه شدة على بعض أهل مصر. فكرهوا ولايته عليهم، وامتنعوا منها. فبلغ ذلك عتبة، فرجع إلى مصر. وكان فصيحًا خطيبًا، قيل: يقال: إنه لم يكن فِي بني أُمَيَّة أخطب منه ، خطب أهل مصر يومًا، فَقَالَ: يا أهل مصر، خف عَلَى ألسنتكم مدح الحق ولا تأتونه، وذم الباطل وأنتم تفعلونه، كالحمار يحمل أسفارًا يثقله حملها ولا ينفعه علمها، وَإِني لا أداوي داءكم إلا بالسيف، ولا أبلغ السيف ما كفاني السوط، ولا أبلغ السوط، ما صلحتم بالدرة، فالزموا ما ألزمكم اللَّه لنا تستوجبوا ما فرض اللَّه لكم علينا، وهذا يَوْم ليس فِيهِ عقاب، ولا بعدة عتاب، والسلام. قال يموت بن المزرع قال: حدثنا أبو حاتم سهل بن محمد قال: أخبرنا العتبي، عن أبيه قال: " استخلف عتبة بن أبي سفيان ابن أخت لأبي الأعور السلمي على أهل مصر. إسلام ويب - سير أعلام النبلاء - وممن أدرك زمان النبوة - الوليد بن عتبة- الجزء رقم3. وكانت له شدة على بعض أهل مصر، فامتنعوا عليه. فكتب إلى عتبة. فقدمها فدخل المسجد، ورقي على المنبر. فحمد الله وأثنى عليه، وقال: " يا أهل مصر! قد كنتم تعذرون ببعض المنع منكم لبعض الجور عليكم.
أجابه عتبة: نعم. وهنا قال له رسول الله r: "فاسمعْ مني". قال عتبة: أفعل.
وكانت هذه عروض أربعة من ممثل قريش الرسمي في المفاوضات مع رسول الله r، وكان عتبة يقدم هذه العروض وهو يرى أنه يقدم أكبر تنازل قد حدث في تاريخ مكة كلها. وإن هذا التنازل الكبير لا بد أن يكون في مقابل، وقد كان المقابل هو: السكوت عن الحق، ترك أمر الدعوة، عدم الخوض إلا فيما يرضي الزعماء والأسياد في مكة أو في غير مكة. وهي -لا شك- عروض لشراء الضمائر والذمم، ولا شك أن من يقبل بمثلها فإن عليه أولاً أن ينحي الضمير جانبًا. ومن هنا فإن التنازلات الضخمة في حياة الدعاة يكون مبدؤها -عادةً- تنازلاً صغيرًا، ولأن الرسول rلم يكن ليخفى عليه مثل هذا، فكان لا يمكن أن يتنازل. الوليد بن عتبة. كان رسول الله r سياسيًّا بارعًا محنكًا، يحاور ويفاوض، لكن وفق ضوابط شرعية قد سنَّها وحددها، فما قبله r فهو الحد الذي يجب أن يأخذ به الدعاة من بعده، وما رفضه r فهو الأمر الذي لا يجب أن يقبل أو يتخطاه أي داعية بعد ذلك. ومع أن الرسول r كان يعلم منذ أول كلمة تفوه بها عتبة أن كل ما سيعرضه عليه ما هو إلا مساومات لا قيمة لها، ومنذ أول حديث له (لعتبة) وهو عازم تمامًا على رفض كل العروض الدنيوية المغرية والسفيهة جدًّا في نظر الدعاة الصادقين، مع كل ذلك إلا أنه -وسبحان الله- لم يقاطع عتبة مرة واحدة، وقد تركه حتى فرغ تمامًا من حديثه، وبعد أن انتهى من حديثه وفي هدوءٍ تام وعدم انفعال قال له: "أقد فرغت يا أبا الوليد؟".
[6] "شُعَب الإيمان" (1/408). [7] "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص67). [8] "الوابل الصيب من الكلم الطيب" (ص71). [9] "الفوائد" (ص250) نقلاً عن كتاب "نضرة النعيم" برقم (5/2009). تعريف الذكر تمجيد الله تعالى وتقديسه وتسبيحه وتهليله والثناء عليه بجميع محامده وتلاوة كتابه - أفضل إجابة. [10] صحيح البخاري (4/173) برقم (6403) وصحيح مسلم (4/2071) برقم (2691). [11] صحيح البخاري (1/271) برقم (843)، ومسلم (1/416) برقم (595). [12] صحيح مسلم (4/272) برقم (2695). [13] صحيح مسلم (4/2090) برقم (2726). [14] صحيح البخاري (4/153) برقم (6306). ______________________________________________ الكاتب: د. أمين بن عبدالله الشقاوي
من القربات في رمضان: ذكر الله وقد أمرنا الله جل جلاله بذكره في كتابه الكريم: قال تعالى: ﴿ فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ ﴾ [سورة البقرة: 152]، وتجاوز الأمر بالذكر للأمر بالذكر الكثير: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾ [سورة الأحزاب: 41، 42]، وقد أثنى جل جلاله على الذاكرين الله في كل أحوالهم: ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىَ جُنُوبِهِمْ ﴾ [سورة آل عمران 191]. ومن فضل الذكر الكثير أنه سبب يسير لأن يكون العبد من السابقين: فعلى الرغم من يُسره وسهولته إلا أنه قد يرفع درجة صاحبه في الآخرة رفعة عظيمة، ففي الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له جمدان، فقال: سيروا هذا جمدان، سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون الله كثيرًا"؛ رواه مسلم واللفظ له. ويعد ذكر الله من أعظم الأعمال أجرًا وأثرًا في حياة المؤمنين: فذكر الله حياة وتركه موت، ففي الحديث الصحيح عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مثل البيت الذي يذكر الله فيه والبيت الذي لا يذكر الله فيه، مثل الحي والميت"؛ رواه البخاري ومسلم، وفي الحديث الصحيح عن أبي موسى رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: "مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه، مثل الحي والميت"؛ رواه البخاري.
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « لأن أقول سبحان الله والحمد لله، ولا إله إلا الله والله أكبر، أَحَبُّ إليَّ مِمَّا طَلَعَتْ عليْهِ الشَّمْسُ »[12]. وقد أمر الله عباده المؤمنين بالذكر الكثير فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الأحزاب: 41-42]. والنبيُّ - صلى الله عليه وسلم - شرع لأمته من الأذكار ما يملأ الأوقات! فلكل حالة أو زمن ذكرٌ يخُصُّه؛ ففي الصباح أذكار مخصوصة، وفي المساء كذلك وعند النوم، واليقظة، وعند دخول البيت والخروج منه، وعند طعامه وشرابه، وغير ذلك من أحواله. ولا شك أن من حافظ على هذه الأذكار فإنه سيكون من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات، وبهذا يأمن مما اتصف به المنافقون حيث يقول الله عنهم: { إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا} [ النساء: 142]. ومن الأذكار العامة التي تشرع في كل وقت: ما رواه ابن عباس عن جويرية: "أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج من عندها بكرة، حين صلى الصبح، وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى".
قال ابن القيم - رحمه الله -: "ولو لم يكن في الذكر إلا هذه وحدها لكفى بها فضلاً وشرفًا"[2]. وانظر إلى هذا الحديث العجيب في بيان فضل الذكر والذاكرين: عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: « ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم، وأرفعها في درجاتكم، وخير لكم من إنفاق الذهب والفضة، وخير لكم مِنْ أَنْ تلقَوْا عدوَّكُمْ فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ قالوا: "بلى يا رسول الله"! قال: ذكر الله عز وجل » [3]. وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: "كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسير في طريقه إلى مكة، فمرَّ على جبل يقال له جمدان" فقال: « سيروا هذا جمدان، سبق المُفَرِّدُونَ ». قالوا: "وما المُفَرِّدونَ يا رسول الله"؟! قال: « الذاكرون الله كثيرًا والذاكرات »[4]. وعن أنس - رضِي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: « لأن أقعد مع قوم يذكرون الله منذ صلاة الغداة حتَّى تطلع الشمس، أَحَبُّ إليَّ من أن أعتق أربعة من ولد إسماعيل، ولأن أَقْعُدَ مع قوم يذكرون الله من صلاة العصر إلى أن تغرب الشمس، أَحَبُّ إليَّ من أعتق أربعة » [5]. قال أبو بكر: "ذَهَبَ الذَّاكِرُون الله بالخير كله"[6].