(مِنَ الصَّابِرِينَ) متعلقان بمحذوف حال. فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) والفاء في { فلمَّا بلغَ معهُ السَّعي} فصيحة لأنها مفصحة عن مقدر ، تقديره: فولد له ويفع وبلغ السعي فلما بلغ السعي قال يا بنيّ الخ ، أي بلغ أن يسعى مع أبيه ، أي بلغ سنّ من يمشي مع إبراهيم في شؤونه. فقوله: { معه} متعلق بالسعي والضمير المستتر في { بلغ} للغلام ، والضمير المضاف إليه { معه} عائد إلى إبراهيم. إسلام ويب - التفسير الكبير - سورة الصافات - قوله تعالى فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك - الجزء رقم11. و { السعي} مفعول { بلغ} ولا حجة لمن منع تقدم معمول المصدر عليه ، على أن الظروف يتوسع فيها ما لا يتوسع في غيرها من المعمولات.
وحُذف المتعلق بفعل { تُؤمرُ} لظهور تقديره: أي ما تؤمر به. وبقي الفعل كأنه من الأفعال المتعدية ، وهذا الحذف يسمى بالحذف والإِيصال ، كقول عمرو بن معد يكرب: أمرتك الخيرَ فافعل ما أمرتَ به... فقد تركتُكَ ذا مال وذا نشَب وصيغة الأمر في قوله: { افْعَلْ} مستعملة في الإِذن. وعدل عن أن يقال: اذبحني ، إلى { افعل ما تؤمرُ} للجمع بين الإِذن وتعليله ، أي أذنت لك أن تذبحني لأن الله أمرك بذلك ، ففيه تصديق أبيه وامتثال أمر الله فيه. وجملة { ستَجِدُني} هي الجواب لأن الجمل التي قبلها تمهيد للجواب كما علمت فإنه بعد أن حثّه على فعل ما أُمر به وَعَده بالامتثال له وبأنه لا يجزع ولا يهلع بل يكون صابراً ، وفي ذلك تخفيف من عبْء ما عسى أن يعرض لأبيه من الحزن لكونه يعامل ولده بما يكره. خواطر علمية حول رؤيا إبراهيم الخليل … شرح وتطبيق معنى تصديق الرؤيا. – موقع تعبير الرؤيا في الإسلام. وهذا وعد قد وفّى به حين أمكن أباه من رقبته ، وهو الوعد الذي شكره الله عليه في الآية الأخرى في قوله: { واذكر في الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد} [ مريم: 54] ، وقد قرن وعده ب { إن شاء الله} استعانةً على تحقيقه. وفي قوله: { مِنَ الصابِرينَ} من المبالغة في اتصافه بالصبر ما ليس في الوصف: بصابر ، لأنه يفيد أنه سيجده في عِداد الذين اشتهروا بالصبر وعرفوا به ، ألاَ ترى أن موسى عليه السلام لما وعد الخضر قال: { ستجدني إن شاء الله صابِراً} [ الكهف: 69] لأنه حُمل على التصبر إجابة لمقترح الخضر.
قولهم أن رؤيا الأنبياء وحي، ثم استدلالهم بالآية الكريمة يحتمل أكثر من معنى: أولا: أن الرؤى التي يراها الأنبياء تكون جميعها أو بعضها أوامر إلهية واجبة التنفيذ كما حدث مع إبراهيم (عليه السلام) في الرؤيا المذكورة. ونحن لا ننكر أن بعض رؤى الأنبياء يمكن أن تكون أمرا مباشرا يجب على النبي تصديقه أو تحقيقه في الواقع كما رآه، ولكن ذلك لا يمكن تعميمه على جميع رؤى الأنبياء، بدليل أن النبي (صلى الله عليه وسلم) قد رأى رؤى عديدة، ومع ذلك فلم تكن أوامر مباشرة له بفعل شيء، ولا كانت واجبة التصديق كما رآها. وبالتالي، فالقول بأن رؤيا الأنبياء وحي، لا يمكن أن تعني أن جميعها أوامر مباشرة واجبة التصديق. ثانيا: أن الرؤى التي يراها الأنبياء صادقة، بمعنى أنها تكون من الله (تعالى)، وتكون ذات معانٍ، فلا يدخل فيها حديث النفس أو الشيطان. وهذا هو الأقرب إلى الصواب، والأولى بالأنبياء (عليهم الصلاة والسلام). وهكذا، ليس معنى أن رؤى الأنبياء جميعها صادقة، أنها يجب أن تكون كلها أوامر إلهية مباشرة لهم أو أنهم يجب عليهم تنفيذها كما رأوها، بل ربما لا يعدو هذا الأمر كونه استثناء كما في رؤيا إبراهيم (عليه السلام). أما بخصوص رؤيا المسلم العادي، فيختلف حكم تصديقها من راءٍ لآخر ومن رؤيا لأخرى، وقد ينطوي على شروط ومحاذير مهمة ، فربما يكون تصديق المسلم لرؤياه كما رآها واجبا أحيانا، ومستحبا أحيانا، ومكروها أحيانا، وحراما أحيانا.
قال تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ) والعادة أن بكر الأولاد أحب إلى الوالدين ممن بعده، فقوة الامتحان والاختبار إنما تحصل بالمولود الأول, ولم يكن ليحصل في المولود الآخر دون الأول. ومنها: أن الله وصف إسماعيل بالصبر في قوله تعالى (وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ) وإسماعيل هو الذي قد صبر على هذا الابتلاء العظيم. ووصفه بأنه صادق الوعد في قوله: (وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ) وإسماعيل هو الذي وفى بوعده حين وعد فقال: (يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) فوفى في وعده, كما قال تعالى: (فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ). ومنها: أن الذبيح كان بمكة، ولذلك جعلت القرابين يوم النحر بها، ومعلوم أن إسماعيل وأمه هما اللذان كانا بمكة دون إسحاق وأمه. وذكر أن الأصمعي سأل أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح فقال: يا أصمعي أين عقلك! ومتى كان إسحاق بمكة, وإنما كان إسماعيل بمكة, وهو الذي بنى البيت مع أبيه, والمنحر بمكة. وذكر بعضهم أنه يشكل على القول بأن الذبيح إسماعيل أن إبراهيم ترك إسماعيل وأمه في مكة وذهب ولم يأت إلا بعد أن كبر إسماعيل وتزوج.
الحجة الثانية: نقل عن الأصمعي أنه قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح ، فقال: يا أصمعي أين عقلك ، ومتى كان إسحاق بمكة ، وإنما كان إسماعيل بمكة ، وهو الذي بنى البيت مع أبيه والمنحر بمكة ؟. الحجة الثالثة: أن الله تعالى وصف إسماعيل بالصبر دون إسحاق في قوله: ( وإسماعيل وإدريس وذا الكفل كل من الصابرين) [ الأنبياء: 85] وهو صبره على الذبح ، ووصفه أيضا بصدق الوعد في قوله: ( إنه كان صادق الوعد) [ مريم: 54] ؛ لأنه وعد أباه من نفسه الصبر على الذبح فوفى به. الحجة الرابعة: قوله تعالى: ( فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب) [ هود: 71] فنقول: لو كان الذبيح إسحاق لكان الأمر بذبحه إما أن يقع قبل ظهور يعقوب منه أو بعد ذلك ، فالأول باطل ؛ لأنه تعالى لما بشرها بإسحاق ، وبشرها معه بأنه يحصل منه يعقوب فقبل ظهور يعقوب منه لم يجز الأمر بذبحه ، وإلا حصل الخلف في قوله: ( ومن وراء إسحاق) والثاني باطل ؛ لأن قوله: ( فلما بلغ معه السعي قال يابني إني أرى في المنام أني أذبحك) يدل على أن ذلك الابن لما قدر على السعي ووصل إلى حد القدرة على الفعل أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه ، وذلك ينافي وقوع هذه القصة في زمان آخر ، فثبت أنه لا يجوز أن يكون الذبيح هو إسحاق.