الشخصيات الروائية لا أعتقد أن مقالًا واحدًا سيكون قادرًا على تحليل شخصيات رواية كائن لا تحتمل خفته الأربعة. كل شخصية كانت نموذجًا يعكس مجموعة. تخيل هذا الدهاء، أن يمثل فرد جماعة. لا يتوقف كونديرا عن جعل كل شخصية مخلوقة بعناية وحسب، بل إن الرابط بينهم واحتكاكهم بعضهم ببعض كان تكامليًا بشكل رهيب. قراءة في رواية كائن لا تحتمل خفته - موضوع. توماس "توماس مثلًا خلق من جملة: مرة واحدة لا تحتسب، مرة واحدة هي أبدًا". ينتمي توماس الجراح المرموق إلى طبقة المثقفين التشيكيين، التي تم تكميمها بعد الغزو السوفيتي لبراغ. يحاول توماس جاهدًا أن يقف على جانب الخفة، فيبدأ بالتخلي عن زوجته ومن ثم ابنه وبشكل غير مباشر عن ذويه. أما في علاقاته مع الجنس الآخر، فإنه يعتبر الجنس والحب كيانين منفصلين وغير مرتبطين؛ يمارس الجنس مع العديد من النساء، ويحب امرأة واحدة، مفرقًا بشكل كبير بين فعل الجنس الشهواني، والوقوع في الحب بعلامة بسيطة: النوم. إذا كان قادرًا على النوم بجانب تلك المرأة فذلك يعني بأنه يحبها، اقترن هنا الحب بالنعاس، والشهوة باليقظة. ولا يرى أبدًا أن ممارسة الجنس تعني خيانة من تحب. يكتب توماس مقالة توقعه في حفرة أزلية، تحمله ثقلًا متزايدًا، وتجرده من حياته المهنية لأنه يرفض التخلي عنها.
'كائن لا تحتمل خفته'هي الرواية الأشهر للروائي التشيكي 'ميلان كونديرا'، الذي ظل لوقت طويل على قائمة انتظار الفوز بجائزة نوبل، ولكن المفارقة الساخرة أنه استمد نضاله الروائي والسياسي ككاتب ينتقد بكل قسوة صلف وجبروت الاتحاد السوفييتي، هذا النضال الذي خبا بمجرد انهيار الاتحاد السوفييتي نفسه. ولكن رغم ذلك تظل لأعماله الإبداعية هذا الوهج لما لها من عمق في تحليل المشاعر الإنسانية في ظل قسوة وبطش نظام قمعي. وعلى رأس هذه الأعمال تأتي روايته كائن لا تحتمل خفته، والتي تحولت إلى السينما في فيلم من إخراج 'فيليب كوفمان'، ومن بطولة 'جولييت بينوش'، 'دانيال دي لوي'، و'لينا أولين'. جدل الخفة والثقل هناك بعض من المفردات لها ترادفاتها الضرورية، التي تكشف وتوضح بعضها البعض، وهي التي يقوم عليها العمل ككل، سواء الرواية أو الفيلم الذي حاول الاقتراب من عالم الرواية المعقد والمتشابك قدر الإمكان، وبفضل أقصى ما تتيحه المفردات السينمائية. فالخفة تعني.. الذات/الروح/الحب/الموت. والثقل يعني.. العالم/الجسد/السلطة/الحياة. كائن لا تحتمل خفته فيلم. وبين هذه المفردات وترادفاتها تدور العلاقة بين 'تريزا'/جولييت بينوش و'توماس'/دانيال دي لوي. فمأساة توماس تكمن في معرفته تماماً وبوعي كل ما يدور حوله من سخف/ثقل، وهو معادل البؤس السياسي التشيكي في الستينات، من حيث انسحاق الفرد وضياع ذاته في سبيل شيء وهمي يُطلق عليه الوطن والمجتمع.
فهذا التفريق يبدو له خبيثاً وبالياً، فهو يحب موسيقى الروك وموزار على حد سواء. الموسيقى بالنسبة له محرّرة: إذ تحرره من الوحدة والانعزال ومن غبار المكتبات. وتفتح في داخل جسده أبواباً لتخرج النفس وتتآخى مع الآخرين. كما أنه يحب الرقص إلى جانب ذلك ويشعر بالأسى لأن سابينا لا تشاركه هذا الولع. " "الوقت الإنساني لا يسير في شكل دائري بل يتقدم في خط مستقيم. من هنا، لا يمكن للإنسان أن يكون سعيداً لأن السعادة رغبة في التكرار. " "شخصيات روايتي هي إمكاناتي الشخصية التي لم تتحقق" ميلان كونديرا "كانت تشعر برغبة جامحة لأن تقول له كما تقول أتفه النساء: «لا تتركني، احتفظ بي إلى جوارك، استعبدني، كن قوياً». ولكنها لا تستطيع ولا تعرف أن تتلفظ بمثل هذه الكلمات. " "يمكن اختصار مأساة حياة «باستعارة» الثقل. نقول مثلاً إن حملاً قد سقط فوق أكتافنا. فنحمل هذا الحمل. كائن لا تحتمل خفته - روافد بوست. نتحمله أو لا نتحمله ونتصارع معه، وفي النهاية إما أن نخسر وإما أن نربح. ولكن ما الذي حدث مع سابينا بالضبط؟ لا شيء. افترقت عن رجل لأنها كانت راغبة في الافتراق عنه. هل لاحقها بعد ذلك؟ هل حاول الانتقام؟ لا. فمأساتها ليست مأساة الثقل إنما مأساة الخفة والحمل الذي سقط فوقها لم يكن حملاً بل كان خفة الكائن التي لا تُطاق. "
تبدو حياة توماس وتيريزا، وفرانز وسابينا، برقّتها وفجورها، بإنسانيتها ووحشيتها، بما تقبل وما ترفض... تدور حول فكرة أساسية: السيطرة. السيطرة هي أهم ما يسعى إليه الإنسان، وقد جاء في أوّل سفر التكوين أن الله خلق الإنسان وجعله يسيطر على الطيور والأسماء والماشية. تستدرج تيريزا توماس إلى فخّ الشفقة والإحساس بالذنب، مما يجعله مستعدًا لتلبية رغباتها. وتجرّ سابينا فرانز القوي البنية لتسيطر على مشاعره، ثم تهجره بسبب ضعفه. وتستخدم السلطة كل الأدوات لإضعاف المجتمع والسيطرة عليه نهائياً. ويستخدم المناضل الشعارات الطنّانة، ليقدّم نفسه كتمثال. رغم الثمن الذي قد يدفعه. في هذه الرواية التي تعتبر أهمّ أعماله، يواجه كونديرا الأوهام: وهم المسيرة الكبرى، وهم السير إلى الأمام، وهم الحب البرئ... وعلى خلفية الاجتياح الروسي لتشيكوسلوفاكيا عام 1968، وأفكار الشيوعية "التي تلغي الصراع في المجتمع" والديمقراطية "التي تحرر الإنسان" يطرح كونديرا أسئلة كثيرة. كائن لا تحتمل خفته. هل الثقل حقًا فظيع؟ وجميلة هي الخفّة؟ ماذا علينا أن نختار، الخفّة أم الثقل! ديكتاتورية البروليتاريا أم الديمقراطية؟ المقصلة أم إلغاء عقوبة الإعدام؟ رفض المجتمع الاستهلاكي أم زيادة الإنتاج؟ إنها رواية، تُقرأ، ثم تُقرأ، لعدّة مرات، وفي كل مرة نكتشف أنها تلامس شيئًا فينا.
إذا كان العوْد الأبدي هو الحمل الأثقل، يمكن لحيواتنا عندئذ أن تظهر على هذه القماشة الخلفية بكلّ خفتها الرائعة. ولكن هل الثقل هو حقاً فظيع؟ وجميلة هي الخفة؟ إن أكثر الأحمال ثقلاً يسحقنا يلوينا تحت وطأته ويشدّنا نحو الأرض. ولكن لو ألقينا مثلاً نظرة على شعر الحب خلال العصور كلّها لرأينا أن المرأة ترغب في أن تتلقى حمل جسد الذكر. إذاً فالحمل الأكثر ثقلاً هو في الوقت ذاته صورة للإكتمال الحيوي في ذروتهفكلما كان الحمل ثقيلاً، كانت حياتنا أقرب إلى الأرض وكانت واقعية أكثر وحقيقيةأكثر. وبالمقابل فإن الكائن الإنساني عند الغياب التام للحمل يصيرأكثر خفّة منَ الهواء محلقاً بعيداً عن الأرض وعن الكائن الأرضي. يصير شبه واقعي وتصبح حركاته حرّة قدر ما هي تافهة. اذاً، ماذا علينا أن نختار الخفةأم الثقل؟ ذاك هو السؤال الذي طرحه بارمينيد على نفسه في القرن السّادس ما قبل المسيح. حسب رأيهِ العالم منقسم إلى أزواج من أضداد: النور- الظلمة، السّميك- الرّقيق،الحارّ- البارد، الكائن- اللا كائن. كان يَعتبر أن أحد قطبيّ التناقض ايجابي( المضيء، الحار، الرقيق، الكائن)والقطب الآخر سلبي. قد يبدو لنا هذا الإنقسام إلى ايجابي وسلبي في نطاقِ سهولةٍ صبيانية باستثناء حالة واحدة: أيُّهما هو الإيجابي، الثقل أم الخفة؟ كان بارمينيد يجيب: الخفيف هو الإيجابي والثقيل هو السلبي.
ميلان كونديرا (مواقع التواصل) لم يكن تخليه عن خفته في سبيل تيريزا التي ظلت تثقله منذ اللحظة التي عبرت فيها سريره محمومة وظل هو يرعاها طوال الليل، وحتى نهاية حياتهما التي جاءت معا، بالشيء المنطقي أبدا. لكن القلب عندما يتحدث، مثلما يقول كونديرا لاحقا في روايته، يجد العقل من غير اللائق أن يعترض. وهكذا، ألقت تيريزا بوجودها أكبر ثقل في حياة توماس سيمنعه منذ تلك اللحظة فصاعدا عن الطفو بحرية مثلما كان يفعل. لكن، يعود السؤال، هل الثقل شيء سلبي تماما؟، "إن أكثر الأحمال ثقلا يسحقنا، يلوينا تحت وطأته ويشدنا نحو الأرض. ولكن لو ألقينا مثلا نظرة على شعر الحب خلال العصور كلها لرأينا أن المرأة تتوق أن تتلقى حمل جسد الرجل. إذًا، فالحمل الأكثر ثقلا هو في الوقت ذاته صورة للاكتمال الحيوي في ذروته. وبالمقابل، فإن الكائن الإنساني عند الغياب التام للحمل يصير أكثر خفة من الهواء، محلقا بعيدا عن الأرض وعن كيانه الأرضي. يصير شبه واقعي وتصبح حركاته حرة قدر ما هي تافهة". [5] تيريزا على الجانب الآخر تأتي كصورة للثقل. حبها لتوماس يمكن اختصاره في صورة يدها التي تبقى متشبثة بيده طوال الليل ولا تتركها أبدا، في ارتباطها بتوماس ورغبتها في أن يكون لها وحدها.