فالبلاء الذي وقع بك أيتها الأخت المسلمة - عافاك الله منه - إنما هو نوع بلاء واحد ، وهو بلاء المرض ، وهو من الابتلاءات الدنيوية ، أما البلاء الذي نزل بالإمام أحمد رحمه الله فليس بلاء واحدا ، وليس بلاء في دنياه فحسب ، وإنما هو بلاء متعدد ، في الدين والدنيا ، فابتلي بالحبس والضرب والإهانة وتسليط أهل البدعة عليه واتهامه بالكفر وتهديده بالقتل ، كما ابتلي في دينه بمحاولة إرغامه على أن يتكلم بكلام أهل الضلال ، ولو أنه تكلم به لضل به خلق كثير ، ولانتصر أهل البدعة على أهل السنة ، ولكان عارا لا تمحوه الأيام. كما ابتلي رحمه الله بالدنيا ، لما أتته وهي راغمة ، بعد أن رفع أمير المؤمنين المتوكل رحمه الله المحنة عن الناس ، وانتصر لأهل السنة ، ورفع قدر الإمام أحمد ، وقربه واجتباه وحباه ، وكان يرسل إليه بالأموال وأنواع الطعام ، فكان الإمام أحمد رحمه الله لا يقرب شيئا من ذلك ، ويفرقه على الفقراء من أهل الحديث وغيرهم ، وشدد على أولاده في قبول شيء منه ، وعنف بعضهم لما قبل بعض ذلك ، وهجره ، وسد بابه دونه. قَالَ قُتَيْبَةُ بن سعيد: " مَاتَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَمَاتَ الْوَرَعُ ، وَمَاتَ الشَّافِعِيُّ وَمَاتَتِ السُّنَنُ ، وَيَمُوتُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَتَظْهَرُ الْبِدَعُ " وَفِي رِوَايَةٍ: قَالَ قُتَيْبَةُ: " إِنَّ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ قَامَ فِي الْأُمَّةِ مَقَامَ النُّبُوَّةِ " قَالَ الْبَيْهَقِيُّ: " يَعْنِي فِي صَبْرِهِ عَلَى مَا أَصَابَهُ مِنَ الْأَذَى فِي ذَاتِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ".
الحمد لله. نسأل الله أن يعافيك ، ويصلح لك أمر دينك ، وأن يرزقك الصبر والرضا بما شاء وقدر بحكمته وعلمه سبحانه. روى الترمذي (2398) وصححه ، وابن ماجة (4023) عَنْ مُصْعَبِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: " قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلَاءً ؟ ، قَالَ: ( الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الأَمْثَلُ فَالأَمْثَلُ ، فَيُبْتَلَى الرَّجُلُ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَإِنْ كَانَ دِينُهُ صُلْبًا اشْتَدَّ بَلَاؤُهُ ، وَإِنْ كَانَ فِي دِينِهِ رِقَّةٌ ابْتُلِيَ عَلَى حَسَبِ دِينِهِ ، فَمَا يَبْرَحُ البَلَاءُ بِالعَبْدِ حَتَّى يَتْرُكَهُ يَمْشِي عَلَى الأَرْضِ مَا عَلَيْهِ خَطِيئَةٌ) وصححه الألباني في "صحيح الترمذي". والبلاء في الحديث عام ، يشمل كل أنواع البلاء ، فيشمل الابتلاء بالسراء والضراء، ويشمل الابتلاء بالحروب والفتن والاضطرابات ، ويشمل الابتلاء بتولي المسؤوليات ، كما يشمل الابتلاء بكثرة الفرق والبدع والضلالات ، وكثرة الشهوات والفجور، وانتشار الفساد في الأرض، ونحو ذلك. وليس البلاء مقصورا على المرض أو الفقر أو نحو ذلك ، قال تعالى: ( وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ) الأنبياء/ 35 ، قال الطبري رحمه الله: " يقول تعالى ذكره: ونختبركم أيها الناس بالشر وهو الشدة نبتليكم بها، وبالخير وهو الرخاء والسعة العافية فنفتنكم به " انتهى من "تفسير الطبري" (18/ 439).
وقال ابن كثير رحمه الله: " أَيْ: نَخْتَبِرُكُمْ بِالْمَصَائِبِ تَارَةً ، وَبِالنِّعَمِ أُخْرَى، لِنَنْظُرَ مَنْ يَشْكُرُ وَمَنْ يَكْفُرُ، وَمَنْ يَصْبِرُ وَمَنْ يَقْنَطُ ، كَمَا قَالَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَة َ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: (وَنَبْلُوكُمْ) ، يَقُولُ: نَبْتَلِيكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ، بِالشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ ، وَالصِّحَّةِ وَالسَّقَمِ ، وَالْغِنَى وَالْفَقْرِ، وَالْحَلَالِ وَالْحَرَامِ ، وَالطَّاعَةِ وَالْمَعْصِيَةِ وَالْهُدَى وَالضَّلَالِ ". انتهى من " تفسير ابن كثير" (5/ 342). وقال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في شرحه لهذا الحديث: " (أشد الناس بلاءً الأنبياء) لأن الله سبحانه وتعالى ابتلاهم بالنبوة ، وابتلاهم بالدعوة إلى الله ، وابتلاهم بقوم ينكرون ويصفونهم بصفات القدح والذم ، ولكن هذا الابتلاء هو في الواقع ؛ لأن كل ما أصابهم من جرائها فهو رفعة في درجاتهم.