الوقفة الثانية: أن في هذا الحدث تأييداً من الله لأهل الحق ويمثلهم الأمير محمد، على أهل الباطل ويمثلهم المجرم الهالك، فهاهم وصلوا عقر الدار، وبحبوحة المنزل، فجعل الله كيدهم في نحورهم، وتدبيرهم تدميراً عليهم، وصدق الله (فلم تقتلوهم ولكن الله قلتهم). الوقفة الثالثة: إن من حكم هذا الحدث ليرى الناس حماية الله لأوليائه، وأن عنايته جل وعلا تكلؤهم، فها هو الأمير بلا حرس، وبمعزل من السلاح، من دون حماية دنيوية، وعدوه أمامه مباشرة، قد اتخم بالمتفجرات، وتهيأ بوسائل المهلكات، والنتيجة أن الله سلم الأمير، وأهلك العدو الأثيم، وصدق الله: (إن الله يدافع عن الذين آمنوا)، فإن تغيبت الحراسة، وتخلفت الحماية، فالله موجود وعينه لا تنام. جريدة الرياض | فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم. الوقفة الرابعة: في هذا الحدث تيئيس للمجرمين والمفسدين، من أن ينالوا من أهل الحق منالاً، وأنهم لن ينتصروا أبداً بإذن الله على جبهة يكون الله معها، فهاهم جربوا، واقتربوا، قاب قوسين أو أدنى، فكان النصر لأهل الحق، والقتل والخسارة لأهل الباطل، وصدق الله (وأن الله مع المؤمنين). الوقفة الخامسة: شتان بين أخلاق الأمير، وأخلاق المجرم الأثيم، انظروا إلى الأمير كيف أحسن الظن، وللمجرم كيف أضمر الشر، ففاز الأمير بحسن ظنه، وهلك المجرم بسوء فعله.
المسألة الثانية: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى ، وجه الاستدلال أنه تعالى قال:( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم) ومن المعلوم أنهم جرحوا ، فدل هذا على أن حدوث تلك الأفعال إنما حصل من الله. وأيضا قوله:( وما رميت إذ رميت) أثبت كونه عليه السلام راميا ، ونفى عنه كونه راميا ، فوجب حمله على أنه رماه كسبا وما رماه خلقا. فإن قيل: أما قوله:( فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم) فيه وجوه: الأول: أن قتل الكفار إنما تيسر بمعونة الله ونصره وتأييده ، فصحت هذه الإضافة. الثاني: أن الجرح كان إليهم ، وإخراج الروح كان إلى الله تعالى ، والتقدير: فلم تميتوهم ولكن الله أماتهم. [ ص: 113] وأما قوله:( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى). قال القاضي: فيه أشياء: منها: أن الرمية الواحدة لا توجب وصول التراب إلى عيونهم ، وكان إيصال أجزاء التراب إلى عيونهم ليس إلا بإيصال الله تعالى. فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ – التفسير الجامع. ومنها: أن التراب الذي رماه كان قليلا ، فيمتنع وصول ذلك القدر إلى عيون الكل ، فدل هذا على أنه تعالى ضم إليها أشياء أخر من أجزاء التراب وأوصلها إلى عيونهم. ومنها: أن عند رميته ألقى الله تعالى الرعب في قلوبهم ، فكان المراد من قوله:( ولكن الله رمى) هو أنه تعالى رمى قلوبهم بذلك الرعب.
والجواب: أن كل ما ذكرتموه عدول عن الظاهر ، والأصل في الكلام الحقيقة. فإن قالوا: الدلائل العقلية تمنع من القول بأن فعل العبد مخلوق لله تعالى ، فنقول: هيهات فإن الدلائل العقلية في جانبنا والبراهين النقلية قائمة على صحة قولنا ، فلا يمكنكم أن تعدلوا عن الظاهر إلى المجاز. والله أعلم. المسألة الثالثة: قرئ ( ولكن الله قتلهم. ولكن الله رمى) بتخفيف ولكن ورفع ما بعده. إسلام ويب - التفسير الكبير - سورة الأنفال - قوله تعالى فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم- الجزء رقم6. المسألة الرابعة: في سبب نزول هذه الآية ثلاثة أقوال: الأول: وهو قول أكثر المفسرين أنها نزلت في يوم بدر ، والمراد أنه عليه السلام أخذ قبضة من الحصباء ورمى بها وجوه القوم وقال شاهت الوجوه ، فلم يبق مشرك إلا ودخل في عينيه ومنخريه منها شيء ، فكانت تلك الرمية سببا للهزيمة ، وفيه نزلت هذه الآية. والثاني: أنها نزلت يوم خيبر ، روي أنه عليه السلام أخذ قوسا وهو على باب خيبر فرمى سهما ، فأقبل السهم حتى قتل ابن أبي الحقيق ، وهو على فرسه ، فنزلت( وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى). والثالث: أنها نزلت في يوم أحد في قتل أبي بن خلف ، وذلك أنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بعظم رميم وقال: يا محمد من يحيي هذا وهو رميم ؟ فقال عليه السلام: يحييه الله ثم يميتك ثم يحييك ثم يدخلك النار ، فأسر يوم بدر ، فلما افتدي قال لرسول الله: إن عندي فرسا أعتلفها كل يوم فرقا من ذرة كي أقتلك عليها ، فقال صلى الله عليه وسلم: "بل أنا أقتلك إن شاء الله" فلما كان أحد أقبل أبي يركض على ذلك الفرس حتى دنا من الرسول عليه الصلاة والسلام ، فاعترض له رجال من المسلمين ليقتلوه ، فقال عليه السلام: "استأخروا" ورماه بحربة فكسر ضلعا من أضلاعه ، فحمل فمات ببعض الطريق.
♦ تفسير البغوي "معالم التنزيل": قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ ﴾، قَالَ مُجَاهِدٌ: سبب نزول هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ لَمَّا انْصَرَفُوا عَنِ الْقِتَالِ كَانَ الرَّجُلُ يَقُولُ: أَنَا قَتَلْتُ فَلَانًا وَيَقُولُ الْآخَرُ مثله، فنزلت هذه الْآيَةُ. فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم. وَمَعْنَاهُ: فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ أَنْتُمْ بقوّتكم ولكنّ الله قتلهم بنصرته إيّاكم وتقويته لكم. وقيل: ولكن اللَّهَ قَتَلَهُمْ بِإِمْدَادِ الْمَلَائِكَةِ. ﴿ وَما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى ﴾.
وَلِيُبْلِيَ: مضارع منصوب بأن المضمرة بعد لام التعليل وعلامة نصبه الفتحة، وفاعله مستتر والمصدر المؤول من أن والفعل في محل جر باللام، والجار والمجرور متعلقان بفعل محذوف أي فعل الله هذا. الْمُؤْمِنِينَ: مفعول به منصوب وعلامة نصبه الياء جمع مذكر سالم. مِنْهُ: متعلقان بمحذوف حال من بلاء. بَلاءً: مفعول مطلق، حَسَناً: صفة. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ: إن واسمها وخبراها والجملة مستأنفة. فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ: ببدر بقوتكم وَلكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ: بنصره إياكم وَما رَمَيْتَ: يا محمد أعين القوم إِذْ رَمَيْتَ: بالحصى لأنَّ كفًا من الحصى لا يملأ عيون الجيش الكثير برمية بشر وَلكِنَّ اللَّهَ رَمى: بإيصال ذلك إليهم، ليقهر الكافرين. لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً: ليختبر المؤمنين منه اختبارا حسنا بالغنيمة، والاختبار يكون بالنقم لمعرفة الصبر، وبالنعم لمعرفة الشكر، والمراد هنا الاختبار بالنعم إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ: لأقوالهم عَلِيمٌ: بأحوالهم.
تاريخ الإضافة: 9/9/2017 ميلادي - 18/12/1438 هجري الزيارات: 122658 ♦ الآية: ﴿ فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾. ♦ السورة ورقم الآية: الأنفال (17).