فالمعروف أن محمود درويش عاش حياة صاخبة على أكثر من صعيد. وقد خاض منذ بداية شبابه وصولاً إلى سنواته الأخيرة معارك كثيرة سياسية وأدبية وثقافية. فمن الطبيعي أن يكون له أنصار، وأن يكون له خصوم. وليس سراً القول بأن قسماً كبيراً من العاملين في الحقل الوطني الفلسطيني يضعونه في عداد شخصيات التسوية مع الإسرائيليين، ويعيدون إلى الذاكرة صفحة «راكاح» الحزب الشيوعي الإسرائيلي، وعمل محمود فيه، وتأثره حتى في أعماله الشعرية الأخيرة، بنفحات راكاح وتوجهاته من حيث النظر إلى اليهود كشعب لا كغزاة.. ولكن مقابل هذه النظرة المتعسفة، بنظرنا، إلى الشاعر، هناك النظرة التوقيرية الأخرى إليه وإلى إرثه. ومن هذه النظرة ينطلق المدافعون عن محمود بوجه هذا المسلسل لأنه «يهين محمود درويش وتاريخه»! فمحمود في نظرهم يُفترض أن يكون عصياً على النقد، كزهر اللوز أو أبعد! محمود درويش.. باقٍ «في حضرة الغياب». فإذا انتقلنا إلى شخصية الشاعر نفسه، وصفات هذه الشخصية وخصائصها، تبين لنا أن الانقسام على أشد ما يكون بين أنصار وخصوم. فلا نبالغ إذا قلنا إن محمود درويش الذي كان يحظى بشخصية كاريزمية، كان أحد أكثر الرموز الفلسطينية تقديراً عند أنصاره ومحبيه. ولعله كان يزاحم في ذلك كبار الرموز الفلسطينية.
و تتساءَل: هل كان حُبًّا أم شهوة، هل كانَ عشقًا أم شبقًا؟ و تنسى شعورك... تنساهُ و لا تبحثُ عنه، فلا تتألم و لا تندم، بل تكتفي بالسلام عليهِ، عن بُعد، و هو ينتقل إلى ذكرى بعيدة لا تُؤَرِّق، ذكرى تتحكَّم بها كما تتحكَّم بجهاز الفيديو: تَضَعُ النهايَةَ في البداية، أو تثبّتُ الصورةُ على ضروراتِ القلب المُتقَلِّب. ترجمة "فى حضرة الغياب" لمحمود درويش للفرنسية بعنوان "غياب حاضر" - اليوم السابع. و تضحك خجلاً من كلامٍ تمادى في مديح الشبق حتى احترق: يبدأ من القدمين المنحوتتين بقطعة شمس، فإلى أعلى يلمع البرق من ساقين مسكوبتينِ بقلق المهارات، فأعلى إلى الرُكْبَتَيْن المُصنَّفتَينْ كمُعجِزَتَيْن، فإلى أعلى: البطنُ – الموجُ في حالة جَزْر، فأعلى: يبدأُ الغروب تدريجيًا بامتصاصك بنَهَمٍ نبيلٍ خَفِر ، فتُقْبِل و تُدْبِرُ و تعلو و تهبط و تعرق و تشهق و تغرق في ليلٍ ساخن العتمة فاتنْ. يداكَ أو يداها – لا تدري – تلمّانك و تحملانك كنسرٍ أغمي عليهِ في فضاء يدلف كواكب... فتنظر إلى العينين نصف المفتوحتين على عينين نصف مُغمضَتين، ليتأكد كل منكما أنه ينبُتُ في الآخر. لكن أحدًا لا يسكُنُ الذروة، تسقطانِ دُفعةً واحدةً من أعلى سماء إلى نُعاسٍ مُبلّل بالرذاذ. تهمِسان بصمتٍ واحد، بلا شيءٍ أوضحَ من أيِّ شيء.
ومن يتابع ردود الفعل التي قامت بوجه هذا المسلسل في عواصم المشرق العربي المعنية بصورة خاصة بإرث محمود درويش، في بيروت ودمشق وعمّان ورام الله وصولاً إلى بلاد الرافدين، يجد أن الايقاع واحد، وهو أن المسلسل لايُحسن إلى ذكرى محمود بل يسيء إليها، والأفضل منع بثه، وكأن هذا المسلسل عبارة عن فيلم وثائقي عن حياة الشاعر الكبير، في حين أنه ليس كذلك. فهو في واقع أمره عبارة عن عرض للسيرة يمكن الرد عليه بعرض سيرة أخرى، بل سير متعددة، طالما أنه عبارة عن عمل انطباعي أو تأثري تصحّ أو لاتصح جوانب كثيرة فيه. وفي مثل هذه الأعمال يفترض أن ينصب الجدل على مدى توفيق القائمين على المسلسل فنياً بالدرجة الأولى، والتزامهم لمعايير الجودة والصدق لا على غير ذلك. وما بقي، فإنه يخضع للزمن ولمعاودة النظر بحثاً عن عمل فني أكثر جودة في المستقبل، وعندها قد يُهجر العمل الأول، ولايوضع إلا في باب المحاولات السابقة التي مهدت للعمل اللاحق الناجح أو الأنجح. أما التعامل معه كعمل مرذول أو منبوذ، سواء قبل عرضه أو قبل إتمام حلقاته، فأمر لا محل له إلا في باب واحد هو باب التعسف. والواقع أن الجدل حول مسلسل محمود درويش ليس سوى حلقة حديثة من الجدل القديم والمستمر حول الشاعر الفلسطيني الكبير ذاته.