التجاوز إلى المحتوى القريبون مني يعرفون بأني محب جداً لأغان محمد عبده، هو كنز فني بلاشك، ولم أكتب هذه التدوينة لمدحه، لكني أعلم يقيناً قدراته الموسيقية، أبونورة يخدمه ذكائه وحسن انتقائه للأغاني – إضافة إلى صوته الجميل وقدراته الطربية الهائلة – ولو أن ذلك غاب مؤخراً باختيارات دون المستوى مما سبب تراجعاً كبيراً أجبره على العودة لتراثه القديم. من وجهة نظري أن أغنية صوتك يناديني هي أفضل أغنية سعودية، مقدمتها الموسيقية خلاقة ومبتكرة ولو أنها عزفت على يد أوركسترا في دار أوبرا مثلاً سيخلدها التاريخ الموسيقي كمقطوعة موسيقية لن تتكرر، حتى توزيعات الأغنية وصعودها وهبوطها أمر جبار. مع تقديري لأبونورة.. من الصعب قبول فكرة أن تلك المعزوفة هي من ألحانه، ومن الصعب أن يكون هذا العمل (بيضة ديك) لشخص عركته الموسيقى والأغاني طوال هذه السنوات، من المستحيل أن يكون الأمر (صدفة إبداعية). الأغنية عندما تسمعها تسكن وجدانك ولن تفارقه، هذا الشعور الموسيقي نادر ولا يمكن أن يتم بـ (صدفة) يتيمة، هو إبداع إنساني سهر عليه شخص ما لساعات طوال ليصل إلى مستوى الكمال. ألحان محمد عبده الناجحة كثيرة أبرزها (مركب الهند، سريت ليل الهوى، المعاناة، يقول من عدى، على البال، ستل جناحه، غافل الهم قلبي) وهذه من المؤكد أنه ألحانه لأنها تتماشى مع ذائقته وتركيبه الموسيقي الذي يتكيء على إرث شعبي قوامه الأنغام والإيقاعات الفلكلورية، لذلك أتحفظ كثيراً عن أن صوتك يناديني أو حتى أنشودة المطر هي من ألحان أبونورة.
كلمات أغنية صوتك يناديني محمد عبده.
أما عن الجمل اللحنية التي تضمنتها الأغنية فكانت تحمل في طياتها الكثير من الابداع والرؤى الجمالية التي زينت الكلمات الرائعة التي كتبها الأمير الشاعر بدر بن عبدالمحسن ولا غرو ان تمنى الموسيقار الكبير محمد عبدالوهاب ان يكون هو الذى لحنها. صوتك يناديني كلمات بدر بن عبدالمحسن غناء وألحان محمد عبده مقام / نهاوند وهو اسم لبلدة في إيران.. وكذلك هو نغم رئيسي في الموسيقى العربية وله عدة فروع وهو أيضا نغم للموسيقى الغربية ويسمى «مينور». * مزيكا ترتكز على حرف «دو» ثم صعوداً إلى حرف «مي» وصولاً إلى «الصول» زمن أربعة «راوند» و«سى» ثم حرف «لا» بطريقة كلاسيكية «فالصول» و«الفاء» و«مي» و«ورى» ثم «دو» وتعود نفس الجملة مرجعة وتستقر على حرف الدو «فالرى» جواب ثم «سي ولا» قبل الوصول إلى أحرف الرى بعد الاستقرار السابق.. لزمة بسيطة ما بين «الدو وسى ولا» على «النوى» تعود تلك الجملة السابقة من «الدو» إلى «الدو» او كتاف نهاوند. فتنقل إلى مقام آخر وهو بيات.. بعد حرف «لا» سي لا مي زمن واحد ثم «فا» سي لا ثم مي وتختلف الحروف من لا ثم سي ولا مي ونزولا إلى حرف «الدو» المستقر الطبيعي للمقام. فدخول المطرب للمذهب ناديت خانتني السنين اللي مضت راحت ناديت ماكن السنين الليل مضت راحت والبارحة صارت عمر ليلة ابد عيت تمر الجملة الغنائية مرجعة بعد اللزمة «كنا افترقنا البارحة» تحولت إلى مقام آخر وهو «البيات» فجأة وبعد نهاية هذه الجملة لزمة تعود بالجملة السابقة مقام «نهاوند» ايضا مرجعة لزمة ثم مطرب.
لا أفهم بالموسيقى ولست ضليعاً بالسلم الموسيقي، لكني أحب أغاني محمد عبده وتقريباً هي التي أسمعها في سيارتي بغالبية المشاوير، لدي إحساس بأن هذا اللحن العظيم هو من ألحان الموسيقار عمر كدرس الذي توفي في العام 2002 إن لم تخني الذاكرة.. هذا الشخص العبقري. أما لماذا أحس بذلك.. أرجعه لنقاط أربع: * عمر كدرس شخص مبتكر موسيقياً ويحرص على جمله الموسيقية بأن تكون طربية ومتنوعة، ولو تتبعت ألحانه لأحسست مثلي بأن (صوتك يناديني) تحمل روحه وإحساسه * في مطلع الثمانينات تألق محمد عبده وعمر كدرس في أغانٍ (روائع) مثل ليلة خميس و وهم، وسببت حرجاً لعمر كدرس بأنه يمنح ألحانه الجميلة لمحمد عبده (حواراته موجودة في يوتيوب)، من الممكن أنه في تلك الفترة فضل أن لا يضع اسمه ملحناً لـ (صوتك يناديني) تلافياً للحرج خاصة مع طلال وأبوبكر سالم اللذان كانا يتهمان أبو نورة علناً بأنه يخطف الألحان منهم. * في تلك الفترة كان عز التنافس بين محمد عبده وطلال مداح، وطلال كان يتميز عن محمد عبده بأنه يلحن لنفسه ويبدع، وهو ماكان ينقص محمد عبده – حتى اليوم – ، لذا من الممكن أنه طلب وضع اسمه كملحن للعمل حتى يجاري المطربين في تلك الفترة مثل طلال وعبادي الجوهر.
إلا أن الأسلوب الذي أتعبه في الحفلة فقد ابتكر طريقة جديدة في الغناء فقد اختصر من إعادات مقاطع الأغنيات ليقدم أكبر مجموعة، وعلمنا من مصدر بالفرقة أن محمد عبده كان قد جهز أكثر من 30 أغنية منها لتكون مجموع أغنيات الحفلة تقريباً، لكنه اعتمد أسلوباً بأن قدم في القسم الأول من البرنامج قرابة 12 أغنية، وترك القسم الثاني مفاجأة للجمهور. وبعد الاستراحة قلب الأوراق ولم يعتمد عليها وغيرها وإذ بالقسم الثاني يتحول إلى أشبه ببرنامج (ما يطلبه المستمعون) إذ وصل للفرقة أكثر من 70 ورقة طلب أغنية، وحاول محمد عبده أن يرضي كل الأذواق ويحقق معظم الطلبات، وهنا كانت المفاجأة الأكبر إذ إن الفرقة الموسيقية لم تكن قد تمرنت على كل الأغنيات المطلوبة إلا أن قيادة الموسيقي إيلي العليا الجديرة وتدريب فرقته جيداً على معظم أرشيف محمد عبده تمكنت من أن تلبي كل الطلبات. ومن الأكيد أن هذا الأمر لا يجرؤ على فعله إلا الفنان الواثق من نفسه وقدراته ومن جمهوره، ولديه كل الثقة بفرقته الموسيقية المحترفة، فقد لاحظنا أن محمد عبده يومي إلى العليا برأسه ويسأله عن ورقة طلب لأغنية وصلت إليه ويأخذ الموافقة على العزف (كل الأغنيات) كل هذا يحصل بثوانٍ دون أن يلاحظ الجمهور الأمر لتعود الصالة إلى الحياة ونبضها مرة جديدة مع (أنوار الأغنيات المضيئة في روح الجمهور الحاشد)، وباختصار فإن سهرة فنان العرب محمد عبده كانت فظيعة بحضوره وفظيعة بجمهوره ايضاً.