وللناس فيما يرونه فوق ما يعقلون طريقان معهودان: منهم من يسنده إلى القوة الغيبية العليا، سواء كان له سبب خفي في الواقع، أم لا. ومنهم من يسنده إلى الأسباب الخفية التي يسمونها السحر، وإن كان فوق قدرة البشر، ولذلك ضلت الأمم السابقة في آيات الأنبياء ضلالاً مبيناً، ولكن ليس لأحد أن يضل في آيات القرآن الكريم، لأنها واضحة معقولة، ولهذا قال سبحانه: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ ﴾ [البقرة: 2]. والذي يجد راحة اليقين في قلبه يجد في الآيات القرآنية مصداق يقينه، يجد فيها طمانينة ضميرة، لإن في الإخبات لله والخشوع لآياته، يحصل إدراك دلالتها، والطمأنينة إلى حقيقتها، فتكون القلوب مهيأة لتلقيها تماماً.
[ ص: 122] [ ص: 123] [ ص: 124] [ ص: 125] بسم الله الرحمن الرحيم القول في تأويل قوله تعالى: ( الم ( 1) تلك آيات الكتاب الحكيم ( 2) هدى ورحمة للمحسنين ( 3) الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة وهم بالآخرة هم يوقنون ( 4)) وقد تقدم بياننا تأويل قول الله - تعالى ذكره - ( الم). وقوله: ( تلك آيات الكتاب الحكيم) يقول - جل ثناؤه -: هذه آيات الكتاب الحكيم بيانا وتفصيلا. من معاني كلمة “الآيات” في القرآنِ العظيم – التصوف 24/7. وقوله: ( هدى ورحمة) يقول: هذه آيات الكتاب بيانا ورحمة من الله ، رحم به من اتبعه ، وعمل به من خلقه. وبنصب الهدى والرحمة على القطع من آيات الكتاب قرأت قراء الأمصار غير حمزة فإنه قرأ ذلك رفعا على وجه الاستئناف ، إذ كان منقطعا عن الآية التي قبلها بأنه ابتداء آية وأنه مدح ، والعرب تفعل ذلك مما كان من نعوت المعارف وقع موقع الحال إذا كان فيه معنى مدح أو ذم. وكلتا القراءتين صواب عندي ، وإن كنت إلى النصب أميل ؛ لكثرة القراء به. وقوله: ( للمحسنين) وهم الذين أحسنوا في العمل بما أنزل الله في هذا القرآن. يقول - تعالى ذكره -: هذا الكتاب الحكيم هدى ورحمة للذين أحسنوا ، فعملوا بما فيه من أمر الله ونهيه ( الذين يقيمون الصلاة) يقول: الذين يقيمون الصلاة المفروضة بحدودها ( ويؤتون الزكاة) من جعلها الله له المفروضة في أموالهم ( وهم بالآخرة هم يوقنون) يقول: يفعلون ذلك وهم بجزاء الله وثوابه لمن فعل ذلك في الآخرة يوقنون.
* * * وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 19284 - حدثنا ابن وكيع, قال: حدثنا عمرو, عن أسباط, عن السدي, قال: قال يوسف لهما: (لا يأتيكما طعام ترزقانه) ، في النوم ، (إلا نبأتكما بتأويله) ، في اليقظة. 19285 - حدثنا ابن حميد, قال: حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق, قال: قال يوسف لهما: (لا يأتيكما طعام ترزقانه) ، يقول: في نومكما ، (إلا نبأتكما بتأويله). * * * ويعنى بقوله (بتأويله): ما يؤول إليه ويصير ما رأيا في منامهما من الطعام الذي رأيا أنه أتاهما فيه. * * * وقوله: (ذلكما مما علمني ربي) ، يقول: هذا الذي أذكر أني أعلمه من تعبير الرؤيا، مما علمني ربى فعلمته ، (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله) ، وجاء الخبر مبتدأ، أي: تركت ملة قوم, والمعنى: ما ملت، وإنما ابتدأ بذلك، لأن في الابتداء الدليل على معناه. * * * وقوله: (إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله) ، يقول: إني برئت من ملة من لا يصدق بالله, ويقرّ بوحدانيته (45) ، (وهم بالآخرة هم كافرون) ، يقول: وهم مع تركهم الإيمان بوحدانية الله ، لا يقرّون بالمعاد والبعث، ولا بثواب ولا عقاب.
لكلمة "الآيات" في القرآنِ العظيم أن تُشيرَ إلى ما أنزلَهُ اللهُ تعالى من كلماتٍ إن آمنَ بها الإنسانُ اهتدى وإن كفرَ بها ضلَّ فتردَّى. لنتدبَّر الآياتِ الكريمة التالية: (ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَليْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ) (من 58 آل عمران)، (قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُون) (من 118 البقرة)، (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ) (من 219 البقرة)، كما وتـأتي كلمةُ "الآيات" في القرآنِ العظيم بمعنى "المعجزات" التي أيَّدَ اللهُ تعالى بها أنبياءَه المُرسَلين. لنتدبَّر الآياتِ الكريمة التالية: (وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُون) (109 الأنعام)، (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا) (59 الإسراء)، (وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) (50 العنكبوت).