وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69) ثم قال ( والذين جاهدوا فينا) يعني: الرسول ، صلوات الله وسلامه عليه ، وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين ( لنهدينهم سبلنا) ، أي: لنبصرنهم سبلنا ، أي: طرقنا في الدنيا والآخرة. قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي ، حدثنا أحمد بن أبي الحواري ، حدثنا عباس الهمداني أبو أحمد - من أهل عكا - في قول الله: ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين) قال: الذين يعملون بما يعلمون ، يهديهم لما لا يعلمون. قال أحمد بن أبي الحواري: فحدثت به أبا سليمان الداراني فأعجبه ، وقال: ليس ينبغي لمن ألهم شيئا من الخير أن يعمل به حتى يسمعه في الأثر ، فإذا سمعه في الأثر عمل به ، وحمد الله حين وافق ما في نفسه. وقوله: ( وإن الله لمع المحسنين) ، قال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي ، حدثنا عيسى بن جعفر - قاضي الري - حدثنا أبو جعفر الرازي ، عن المغيرة ، عن الشعبي قال: قال عيسى ابن مريم ، عليه السلام: إنما الإحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك. [ وفي حديث جبريل لما سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن الإحسان قال: " أخبرني عن الإحسان ".
وقال الضحاك: معنى الآية; والذين جاهدوا في الهجرة لنهدينهم سبل الثبات على الإيمان. ثم قال: مثل السنة في الدنيا كمثل الجنة في العقبى من دخل الجنة في العقبى سلم كذلك من لزم السنة في الدنيا سلم. وقال عبد الله بن عباس: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا. وهذا يتناول بعموم الطاعة جميع الأقوال. ونحوه قول عبد الله بن الزبير; قال: تقول الحكمة: من طلبني فلم يجدني فليطلبني في موضعين: أن يعمل بأحسن ما يعلمه ويجتنب أسوأ ما يعلمه. وقال الحسن بن الفضل: فيه تقديم وتأخير أي الذين هديناهم هم الذين جاهدوا فينا. لنهدينهم سبلنا أي طريق الجنة; قاله السدي. النقاش: يوفقهم لدين الحق. وقال يوسف بن أسباط: المعنى: لنخلصن نياتهم وصدقاتهم وصلواتهم وصيامهم وإن الله لمع المحسنين لام تأكيد ودخلت في ( مع) على أحد وجهين: أن يكون اسما ولام التوكيد إنما تدخل على الأسماء ، أو حرفا فتدخل عليها; لأن فيها معنى الاستقرار; كما تقول إن زيدا لفي الدار. و ( مع) إذا سكنت فهي حرف لا غير وإذا فتحت جاز أن تكون اسما وأن تكون حرفا. والأكثر أن تكون حرفا جاء لمعنى وتقدم معنى الإحسان والمحسنين في ( البقرة) وغيرها وهو سبحانه معهم بالنصرة والمعونة ، والحفظ والهداية ، ومع الجميع بالإحاطة.
تم تفسير سورة العنكبوت بحمد اللّه وعونه. ﴿ تفسير البغوي ﴾ ( والذين جاهدوا فينا) الذين جاهدوا المشركين لنصرة ديننا ( لنهدينهم سبلنا) لنثبتنهم على ما قاتلوا عليه. وقيل: لنزيدنهم هدى كما قال: " ويزيد الله الذين اهتدوا هدى " ( مريم - 76) ، وقيل: لنوفقنهم لإصابة الطريق المستقيمة ، والطريق المستقيمة هي التي يوصل بها إلى رضا الله - عز وجل -. قال سفيان بن عيينة: إذا اختلف الناس فانظروا ما عليه أهل الثغور ، فإن الله قال: ( والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) وقيل: المجاهدة هي الصبر على الطاعات. قال الحسن: أفضل الجهاد مخالفة الهوى. وقال الفضيل بن عياض: والذين جاهدوا في طلب العلم لنهدينهم سبل العمل به. وقال سهل بن عبد الله: والذين جاهدوا في إقامة السنة لنهدينهم سبل الجنة. وروي عن ابن عباس: والذين جاهدوا في طاعتنا لنهدينهم سبل ثوابنا. ( وإن الله لمع المحسنين) بالنصر والمعونة في دنياهم وبالثواب والمغفرة في عقباهم. ﴿ تفسير الوسيط ﴾ ثم ختم- سبحانه- السورة الكريمة بقوله- تعالى-: وَالَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا، وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ. أى: هذا الذي ذكرناه سابقا من سوء مصير، هو للمشركين الذين يؤمنون بالباطل ويتركون الحق، أما الذين بذلوا جهدهم في سبيل إعلاء ديننا، وقدموا أنفسهم وأموالهم في سبيل رضائنا وطاعتنا، وأخلصوا لنا العبادة والطاعة، فإننا لن نتخلى عنهم، بل سنهديهم إلى الطريق المستقيم، ونجعل العاقبة الطيبة لهم، فقد اقتضت رحمتنا وحكمتنا أن نكون مع المحسنين في أقوالهم وفي أفعالهم، وتلك سنتنا التي لا تتخلف ولا تتبدل.
ا لخطبة الأولى ( وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا) الحمد لله رب العالمين. اللهم لك الحمد على نعمة الإسلام والايمان. ولك الحمد أن جعلتنا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وجملة: (يؤفكون... ) في محلّ جزم جواب شرط مقدّر مقترنة بالفاء أي: إن صرفهم الهوى فأنّى يؤفكون.. وجملة الشرط المقدّرة لا محلّ لها استئنافيّة.. إعراب الآية رقم (62): {اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62)}. الإعراب: (لمن) متعلّق ب (يبسط)، (من عباده) متعلّق بحال من العائد المقدّر، (له) متعلّق (يقدر) (بكلّ) متعلّق بعليم. جملة: (اللّه يبسط... وجملة: (يبسط... ) في محلّ رفع خبر المبتدأ (اللّه). وجملة: (يشاء... ) لا محلّ لها صلة الموصول (من). وجملة: (يقدر له... ) في محلّ رفع معطوفة على جملة يبسط. وجملة: (إنّ اللّه... عليم) لا محلّ لها تعليليّة.. إعراب الآية رقم (63): {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63)}. الإعراب: الواو استئنافيّة- أو عاطفة- (لئن.. نزّل) مثل لئن.. خلق، (من السماء) متعلّق ب (نزل)، الفاء عاطفة (به) متعلّق ب (أحيا)، (من بعد) متعلّق ب (أحيا)، (ليقولنّ اللّه) مثل السابقة (للّه) متعلّق بخبر المبتدأ الحمد (بل) للإضراب الانتقالي (لا) نافية.
فيأتي الجواب في آخر السورة، في هذه القاعدة القرآنية المحكمة: { وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا} فلا بد من الجهاد ـ بمعناه العام ـ ولا بد من الإخلاص ، عندها تأتي الهداية، ويتحقق التوفيق بإذن الله. ولا بد لكل من أراد أن يسلك طريقًا أن يتصور صعوباته؛ ليكون على بينة من أمره، وهكذا هو طريق الدعوة إلى الله، فلم ولن يكون مفروشًا بالورود والرياحين، بل هو طريق "تعب فيه آدم, وناح لأجله نوح, ورمى في النار الخليل, وأضجع للذبح إسماعيل, وبيع يوسف بثمن بخس, ولبث في السجن بضع سنين" (1). أتدري لماذا أيها القارئ الكريم؟ لأن " الإيمان ليس كلمة تقال إنما هو حقيقة ذات تكاليف؛ وأمانة ذات أعباء؛ وجهاد يحتاج إلى صبر، وجهد يحتاج إلى احتمال. فلا يكفي أن يقول الناس: آمنا. وهم لا يتركون لهذه الدعوى، حتى يتعرضوا للفتنة فيثبتوا عليها ويخرجوا منها صافية عناصرهم خالصة قلوبهم، كما تفتن النار الذهب لتفصل بينه وبين العناصر الرخيصة العالقة به وهذا هو أصل الكلمة اللغوي وله دلالته وظله وإيحاؤه وكذلك تصنع الفتنة بالقلوب" (2). "فيا من نصبت نفسك للدعوة، وأقمت نفسك مقام الرسل الدعاة الهداة تحمَّل كلَّ ما يلاقيك من المحن بقلب ثابت، وجأش رابط، ولا تزعزعنَّك الكروب؛ فإنها مربِّية الرجال، ومهذِّبة الأخلاق ، ومكوِّنة النفوس.