السابعة: أنَّ الفلاح والعلو إنما هو لأهل الإيمان ؛ وقد مر في هذا السياق أن السحرة قالوا: ** وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى ** [طه:64] ، فأبى الله جلَّ في علاه أن يكون الفلاح إلا لأهل الإيمان ، ولهذا قال جل وعلا في هذا السياق {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى** ، بعد أن أمر نبيه ورسوله موسى عليه السلام أن يُلقي تلك العصا الصغيرة في يده في مجابهة ركام السحر الكثير ** وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ** [طه:69]. الثامنة: أن هذا الحكم الذي ذكره الله جل وعلا في هذه الآية {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى** حكمٌ يتناول كلَّ ساحرٍ في كل زمان ؛ وهذا نعلمه من طريقة القرآن ، فالسياق كان عن سحرة معيَّنين نازلوا موسى عليه السلام فلم يقل ولا يفلح هؤلاء السحرة ، وإنما قال: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى**. فطريقة القرآن إذا كان الحكم لا يختص بالمعيَّن الذي جاء السياق لإبطال ما هو عليه وإنما يتناول كل من كان على صفته يأتي الحكم عامًا كما هو في هذه الآية قال: {وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى** ، فالساحر هنا أي: كل ساحر في أي زمان أو مكان، فـ «ال» للجنس.
(2) ينظر: أضواء البيان 4/551 ط. الراجحي. (3) ينظر: التحرير والتنوير 9/144. (4) ينظر: أضواء البيان 4/552 ط. الراجحي. (5) صحيح مسلم، ح (2204). (6) صحيح البخاري ح (5678).
نفي الفلاح ليس خاصاً بالساحر هذا النفي للفلاح لا يقتصر على الساحر فحسب، ولكن يتعدّاه ليشمل من يأتي أولئك السحرة والكهّان، فعن ابن مسعود - رضي الله عنه- قال: "من أتى عرّافاً، أو ساحراً، أو كاهناً فسأله، فصدّق بما يقول، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم". رواه أبو يعلى و البزار ورجاله ثقات كما قال الهيثمي ، والحديث وإن كان موقوفاً إلا أنه لا يُقال بمجرّد الرأي. وفي الحديث: (ثلاثة لا يدخلون الجنة: مدمن خمر، وقاطع رحم، ومصدّق بالسحر). (وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى). رواه الإمام أحمد وابن حبان في صحيحه و الحاكم ، وصححه الحاكم ووافقه الذهبي.
هذه عشر فوائد مستنبطة من قوله جل وعلا: { وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى} [طه:69]: الأولى: أن الساحر كما أخبر الله تبارك وتعالى لا يفلح أبداً ؛ وينبغي أن نعلم أن الفلاح يعني حيازة الخير في الدنيا والآخرة ، فنفيُه عن الساحر نفيٌ لتحصيل الساحر للخير في دنياه وأخراه ، فهو خائبٌ خاسرٌ في الدنيا والآخرة. الثانية: أن السحر ليس طريقةً واحدة ، وإنما هو طرائق كثيرة ومدارس متنوعة وأنواعه عديدة ، وقد قال الله جل وعلا في هذا السياق: { حَيْثُ أَتَى} أي أيًّا كانت طريقته وأيًّا كان أسلوبه في السحر وأيًّا كانت مدرسته ؛ فالسحر أيًّا كانت طريقته وأسلوبه ونوعه هذا مآله ومصيره أنَّ صاحبه لا يفلح إطلاقًا لا في دنياه ولا في أخراه. الثالثة: أن الساحر إذا كان أمره كما أخبر الله لا يفلح حيث أتى فإنَّ من يأتي إليه يطلب من جهته منفعةً أو صلاحًا أو فائدةً فإنَّه لا يفلح من باب أوْلى. جريدة الرياض | (إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى). الرابعة: بطلان النشرة التي هي حلٌ للسحر بسحرٍ مثله ، وقد جاء في الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئل عن النشرة قال: ((هي من عمل الشيطان)) ، فحلُّ السحر بسحر مثله هذا أمرٌ لا يجوز ، فيحرم على المسلم أن يذهب إلى ساحر حتى وإن كان غرضه من الذهاب إليه أن يحُلَّ عنه سحرًا أصابه ، فهو داخلٌ تحت عموم قوله تبارك وتعالى { حَيْثُ أَتَى} ، فلا يمكن أن يُنال من جهته أي فلاحٍ ولو كان ذلك حلًا للسحر.
الأمر الثاني: أنه عرف باستقراء القرآن أن الغالب فيه أن لفظة {لا يفلح} يراد بها الكافر، كقوله تعالى في سورة "يونس": {قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (*) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ} [يونس: 68، 69] ، وقولِه في "يونس" أيضا: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ} [يونس: 17]"(4). أيْ قارئ المسطور: كم هي الآيات التي تحدثت عن السحر والسحرة في كتاب الله تعالى؟! وأخبرت عن ضلالهم، وبوارهم وخوارهم، وخسارتهم في الدنيا والآخرة؟! ومع هذا فيتعجب المؤمن ـ أشد العجب ـ من رواج سوق السحر والسحرة في بلاد الإسلام! وليس العجب من وجود ساحر أو ساحرة، فهذا لم يخل منه أفضل الأزمان،وهو الزمن الذي عاش فيه النبي صلى الله عليه وسلم، فضلاً عن غيره! وليس العجبُ ـ أيضاً ـ من ساحر يسعى لكسب الأموال بأي طريق، وحيثما أتى! لكن العجب من أمة تقرأ هذا الكتاب العظيم، وتؤمن بصدقه، وتقرأ ما فيه من آيات صريحة واضحة في التحذير من السحر وأهله، وبيان سوء عاقبتهم ومآلهم في الدنيا والآخرة، ومع ذلك يقف أبناء الأمة زرافاتٍ ووحداناً أما عتبات أولئك السحرة المجرمين؟!