ولا يقتصر الأمر على المفكرين هنا. فالبشر بحاجة لـ «تاريخيين بلا حدود» من أجل إعادة قراءة شروط الحضارات التي سادت وتلك التي بادت. وهذا يتطلب التخلي عن اللهث وراء المال أو الشهرة، وهي أعلى درجات نكران الذات وإبراز الحقيقة. والصراع المحتدم في العالم حالياً يهدد باندلاع حرب نووية لا تبقي ولا تذر. ولذلك نحن البشر بحاجة لـ «إعلاميين بلا حدود» يوصلون الحقيقة ولو فقدوا وظائفهم. وبحاجة لـ «فنانين بلا حدود» يعيدون إنتاج المنظومات القيمية والأخلاقية الرفيعة التي تدهورت في ظل النظام الرأسمالي. الاختصار ليس مفيدا في هذا السياق، ولكن الصراع المحتدم الآن هو بين الإنسانية واللا إنسانية. وهناك الكثير ممن يفتخرون بابتعادهم عن الإنسانية وتشبثهم بـ «حيوانية» تدر عليهم أموالاً وشهرة. ولكن رحلة استعادة «الإنسانية» المسلوبة قد بدأت. مصطلح الإنسانيَّة - Afkaar Centre. وهذا ليس حلماً، ولكنني لا أستبعد نشوء مجموعات من البشر تستحق أن تسمى «إنسانية بلا حدود». ** ** - عادل العلي
وتمادى بعضُ الإنسانيَّين في تشديدِهم على استغناءِ الإنسان واكتفائِه بذاته، والإعلاءِ من قيمته والارتقاءِ به إلى الحدّ الذي يضعه فوق كلّ شيء، بالنحو الذي صادر فيه الإنسانُ مكانةَ الله في العالَم. بموازاة ذلك اهتم إنسانيَّون آخرون باستردادِ القيمة المهدورة للإنسان، لكنهم لم ينصّبوا الإنسانَ بديلا لله في العالَم. ومع أنهم وضعوا الدينَ في حدودِ اللاهوت ومعارفِ الدين الخاصة، ورفضوا مصادرتَه للعلم والأدب والفن، لكنهم رفضوا أيضًا الدعوةَ لاستغناءِ الإنسان واكتفائِه بذاته، وتنبهوا إلى أن الإنسانَ يظل بحاجةٍ أبديةٍ إلى صلةٍ بوجود مُطلَق يتخطّى وجودَه الشخصي، تتكرّس به كينونتُه، ويمنح حياتَه المعنى المسكونَ الإنسان باكتشافه. وعلى الرغم من أن الإنسانيين الروادَ كانوا مؤمنين بالدين المسيحي، بل كان إيراسموس الهولندي "1469-1536" لاهوتيًا ومترجمًا للكتاب المقدّس، وحاول أن يقدّم قراءةً جديدةً للإنجيل تضع المسيحيةَ أفقًا لديانة عالمية. يصف هاشم صالح إيراسموس بأنه: "الشخصية التي جسدت مثل عصر النهضة والنزعة الإنسانية في أرقى تجلياتها، ولكن لا يفهمنّ أحد من هذا الكلام انه كان مضادا للدين. إنسانيون بلا حدود. على العكس، لقد كان مؤمنا مستنيرا راسخ الإيمان ولأنه كان مستنيرا، فإنه وقع في صدام مع رجال الدين في عصره: أي مع جمهور الكهنة والرهبان الذين كانوا يشكلون عددا غفيرا في ذلك الزمان، وأكبر بكثير مما هو عليه الحال في أوروبا الحديثة الحالية".
كذلك كان الإيطالي فرانشيسكو بترارك "1304- 1374" يرى للسيد المسيح مكانةً ساميةً يتفوّق فيها على غيره، إلا أن إنسانيّين آخرين دعوا في وقتٍ لاحقٍ إلى "إنسانيّة" بعيدةٍ عن الدين، فاتخذت الدعوةُ لـ "الإنسانيَّة" لنفسِها مسارَين: 1. مسار متصالح مع الدين، وإن كان لا يقبل بتأميمِ الدين ومصادرتِه لكافة أشكال المعرفة البشرية، بل يخصّ المعرفةَ الدينيةَ باللاهوت والكتاب المقدّس. 2. مسار آخر لا صلةَ له بالشأن الديني، وهذا المسارُ هو الذي اكتسب حضورًا لافتًا في الفكر الغربي منذ القرن الثامن عشر، وتعاظم نفوذُه وتأثيرُه في القرنين التاسع عشر والعشرين، وترك بصمتَه في العلومِ والآدابِ والفنونِ المختلفة، والحياةِ الفردية والمجتمعية. بناء على أن كل عصر يمتلك معاييره الخاصة للمعرفة والزمن والجمال وغيرها، لأن "العصور المختلفة محكومة بمعاييرها الخاصة" كما يرى هيغل. د. عبدالجبار الرفاعي مفكر عراقي، متخصص في الفلسفة وعلوم الدين. من مؤسسي علم الكلام الجديد في المجال العربي. منذ ثلاثين عامًا يكرّس منجزه لفلسفة الدين وعلم الكلام الجديد. مدير مركز دراسات فلسفة الدين في بغداد، ورئيس تحرير مجلة قضايا إسلامية معاصرة، منذ إصدارها عام 1997 وحتى اليوم.