هذه هي السَّكِينَة يا مَنْ تنشدها وهي ضالَّتُكَ، هذه هي السَّكِينَة يا من أثقله همه، وأضجره غمُّه، هذه هي السَّكِينَة، يا باغي السَّكِينَة، ها قد عرفتها فالزمها، ويا لله كم أحسن من انتهى إلى ما سَمِعَ، والله -جل وعلا- يقول: ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ)[الْأَنْعَامِ: 90]. بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والمسلمات، من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه، إن ربي كان غفورا رحيما. الخطبة الثانية: الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله الهادي المجتبى.
نظرة في الآيات الناظر في هذه الآيات المباركة يتضح له أنها تحتوي جميعها على لفظ السكينة، كما تدل على الطمأنينة. السكينة هي الوقار، وقوة القلب، وعدم الاضطراب والخوف، كما تحتوي على معاني الثقة بالله، والتوكل عليه. ففي الآية الأولى من آيات السكينة كان فيها تثبيت لقلب بني إسرائيل وتقوية لهم على مواجهة عدوهم. والآية الثانية فيها إنزال السكينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه عند لقاء المشركين. " السَّكِينَـة " - الكلم الطيب. وفي الآية الثالثة كانت السكينة نازلة في الغار على رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه أبو بكر. كما أن الآية الرابعة فيها تنزل السكينة على قلوب المؤمنين، وزيادة الثبات والإيمان في قلوب الصحابة رضوان الله عليهم. الآية الخامسة من آيات السكينة كانت عند تنزلها على أصحاب بيعة الرضوان في الحديبية، وهي البيعة التي كانت سببًا في رضوان الله عن المؤمنين. كما أن الآية السادسة تتحدث عن صلح الحديبية ، ونزول الطمأنينة والتقوى على قلوب الصحابة المرافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فضل آيات السكينة لآيات السكينة أثر على كل مسلم يقرأها بغية طلب الراحة والطمأنينة القلبية. قراءة هذه الآيات المباركة في مواطن الفتن ، والضعف ، قادرة بإذن الله على تثبيت المسلم.
ولعلك أخي المبارك تتساءل: كيف لنا أن نستنزل تلك السكينة؟ وبأي وسيلة نَستجلِبُها؟ تأمَّل معي ما جاء في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله، يتلون كتاب الله، ويتدارسونه بينهم، إلا غشيتهم الرحمة، وتنزلت عليهم السكينة، وحفَّتهم الملائكة، وذكرهم الله فيمن عنده))، فالسكينة لا تتنزَّل إلا بالقرآن. وفي الصحيح أيضًا أن أُسيد بن الحضير كان يقرأ سورة الكهف، فرأى مِثلَ الظُّلة، فيها أمثال المصابيح، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تلك السكينة تنزلت لسماع القرآن))، فلا سبيل لاستنزال سكينة النفس، واطمئنان القلب، وثبات القدم، وانشراح الصدر، إلا بكتاب الله جل وعلا؛ ﴿ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾ [الرعد: 28]، فتأتي تلك المنحة الإلهية ليزداد أهل الإيمان يقينًا بربهم، ﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ ﴾ [الفتح: 4]. رأى خليل الرحمن إبراهيمُ عليه السلام دابَّة ميتةً على ساحل البحر، فإذا جاء المد تناولتها دواب البحر تأكل منها، وإذا جاء الجزر تناولتها دواب الأرض تأكل منها، فإذا انتهوا نزل الطير على ما تبقَّى ليأكل، فتقسمت أجزاؤها على البحر والبر وطير السماء، فقال الخليل عليه السلام: ﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي ﴾ [البقرة: 260]، إنها السكينة التي تنزل فيزداد بها إيمانُ العبد المؤمن.
3- المتَحلِّي بالسَّكِينَة يخشع في صلاته. 4- إنَّ من صفة النَّاسك السَّكِينَة؛ لغلبة التَّواضع وإتيان القناعة، ورفض الشَّهوات [الأمل والمأمول للجاحظ]. 5- السَّكِينَة علامة من علامات رضا الله عزَّ وجلَّ. أقسام السَّكِينَة: 1- عامَّة: وهى التى تخصُّ عامَّة الخَلْق، وهى التي يجدها العبد عند القيام بوظائف العبوديَّة، وهي التي تورث الخشوع والخضوع، وجمعيَّة القلب على الله، بحيث يؤدِّي عبوديَّته بقلبه وبدنه قانتًا لله عزَّ وجلَّ (1). هو الذي انزل السكينة على قلوب الموممنين. 2- خاصَّة: وهى التي تخصُّ أتباع الرُّسل بحسب متابعتهم، وهي سَكِينة الإيمان، وهي سَكِينةٌ تُسَكِّن القلوب عن الرَّيب والشَّك، ولهذا أنزلها الله على المؤمنين في أصعب المواطن، أحوج ما كانوا إليها " هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا " [الفتح: 4] فذكر نعمته عليهم بالجنود الخارجة عنهم، والجنود الدَّاخلة فيهم، وهي السَّكِينَة عند القلق والاضطراب [إعلام الموقعين،لابن القيم]. قال صاحب ((المنازل)): (السَّكِينَة: اسم لثلاثة أشياء: أوَّلها: سَكِينة بني إسرائيل التي أعطوها في التَّابوت.
وعن عائشة رضي الله عنها قالت: ما رأيت أحدًا كان أشبه سَمْتًا وهديًا ودلًّا. وفي رواية: (حديثًا، وكلامًا برسول الله صلى الله عليه وسلم من فاطمة، كانت إذا دخلت عليه، قام إليها، فأخذ بيدها فقبَّلها، وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها، قامت إليه، فأخذت بيده فقبَّلته، وأجلسته في مجلسها [1635] رواه أبو داود (5217)، والتِّرمذي (3872)، والنَّسائي في السُّنن الكبرى (5/96) (8369)، وابن حبان (15/403) (6953)، والطبراني في المعجم الأوسط (4/242) (4089)، والحاكم (3/167)، والبيهقي (7/101) (13962). قال التِّرمذي: حسن غريب من هذا الوجه. وصححه النَّووي في الترخيص بالقيام (42)، والألباني في صحيح سنن أبي داود (5217)، وجوَّد إسناده ابن باز في مجموع فتاوى ابن باز (2/92)، وحسَّنه الوادعي في الصحيح المسند (1591). قال القاري: "سمتًا". أي: هيئة وطريقة كانت عليها من السَّكِينَة والوَقَار. قال الشَّارح: السَّمت في الأصل القَصْد، والمراد به: هيئة أهل الخير والتَّزيي بزيِّ الصَّالحين. "وهديًا" أي: سيرة وطريقة. يقال: فلان حَسَن الهدي، أي: حَسَن المذهب في الأمور كلِّها. هو الذي انزل السكينة في قلوب المؤمنين. "ودلًّا": بفتح دال وتشديد لام، فسَّره الرَّاغب بحُسْن الشَّمائل، وأصله من: دلِّ المرأة ، وهو شَكْلها، وما يُسْتَحْسَن منها.
وقوله: { وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} أي: جميعها في ملكه، وتحت تدبيره وقهره، فلا يظن المشركون أن الله لا ينصر دينه ونبيه، ولكنه تعالى عليم حكيم، فتقتضي حكمته المداولة بين الناس في الأيام، وتأخير نصر المؤمنين إلى وقت آخر. تفسير السعدي
وإن مما عُلِّمْنَاه من هدي شريعتنا الغراء أن الهم والقلق المفرطينِ خطرٌ على مجموع الأمة وإنتاجها؛ لأن من الخير لكل مجتمع مسلم أن يستقبل يومَه ببشر وفأل وأمل؛ كي يستفيد ذووه من أوقاتهم، ويغتالوا القعود والقنوت قبل أن يُجهِز عليهم؛ إذ لا يُظَنَّ بعاقل أن يزهد في السَّكِينَة والأنس والرضا، والمرء إذا ما غلبته أعراض قاهرة سلبته الطمأنينة والرضا فإنه يجب عليه أن يعجِّل بالتداوي الناجع الذي دلَّ عليه دينُنا الحنيفُ؛ لئلا يستسلم لقوارع الهموم التي تحل العجز والكسل محل الهمة والجد والعمل. والهموم -وإن كانت شعورا وليست مادة- إلا أنها أشدُّ أثرا من المغريات المادية الحسية، السَّكِينَةُ -عبادَ الله- جندٌ من جنود الله، التي خص بها أتباع رسوله -صلى الله عليه وسلم-، كُلًّا بحسب متابعته له، وهي سكينة إيمان تَقَرُّ في القلب، فتصد كل ريب وفَرَق وشك، وتكمُن أهميتُها أمام الحادثات والخطوب والْمُدْلَهِمَّات، فإن الله وهبها عباده المؤمنين في مواطن عصيبة كانوا أحوج إليها من الطعام والشراب، ( هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا)[الْفَتْحِ: 4].