[ ص: 353] إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنـزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار: واعتقابهما; لأن كل واحد منهما يعقب الآخر، كقوله: جعل الليل والنهار خلفة [الفرقان: 62] بما ينفع الناس: بالذي ينفعهم مما يحمل فيها أو ينفع الناس. فإن قلت: قوله: وبث فيها: عطف على أنزل أم أحيا؟ قلت: الظاهر أنه عطف على أنزل داخل تحت حكم الصلة; لأن قوله: فأحيا به الأرض: عطف على أنزل، فاتصل به وصارا جميعا كالشيء الواحد، فكأنه قيل: وما أنزل في الأرض من ماء وبث فيها من كل دابة، ويجوز عطفه على أحيا على معنى: فأحيا بالمطر الأرض وبث فيها من كل دابة; لأنهم ينمون بالخصب ويعيشون بالحيا. وتصريف الرياح: في مهابها: قبولا ودبورا، وجنوبا، وشمالا، وفي أحوالها: حارة، وباردة، وعاصفة، ولينة، وعقما، ولواقح، وقيل: تارة بالرحمة، وتارة بالعذاب. والسحاب المسخر: سخر للرياح تقلبه في الجو بمشيئة الله يمطر حيث شاء لآيات لقوم يعقلون: ينظرون بعيون عقولهم ويعتبرون; لأنها دلائل على عظيم القدرة وباهر الحكمة.
وكان نزول الآية له عظة، حيث قال الله تعالى أن الخلق الذي يوجد في السماء وإن من رفع السماء بلا أي عمود أو رافعة، والأرض أيضاً التي توجد ويكون عليها البشر والخلق والجبال والبراكين والرمال وغيرها من الأشياء. وأن الاختلاف الموجود بين الليل والتقلب الذي يحدث ويأتي بالنهار لا يفهمه سوى أصحاب العقول. نوصي بالاطلاع على معلومات أكثر عن فضل سورة يس المغامسي وبعض الحقائق الخاصة بسورة يس قصة هذه الآية فقد حدثت قصة جعلت الله تعالى يقوم بتنزيل آية (إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) وهي تكون على النحو التالي:- يقول الطبراني أن الحسن بن اسحاق قد حدثنا عن يحيى الحماني عن بن عباس فقال:- آتى كل بني قريش إلى قبائل اليهود وقالوا ماذا رأيتم من موسى. فقالوا قد رأينا أيده تنير بالضياء وقد رأينا عصاه لونها أبيض اللون. فذهبت قريش إلى أهل عيسى أو أي قوم سيدنا عيسى عليه السلام، فقالوا كيف رأيتم عيسى. فقال قوم عيسى كان يحيي الموتى ويشفي الأبرص والأكم. فذهبوا إلى محمد صلى الله تعالى عليه وسلم. فقالوا أدع لنا ربك أن يجعل من الصفا ذهبا لكي يتأكدوا. فدعا سيدنا محمد بهذا الدعاء، فنزل قول الله تعالى ( إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب) صدق الله العظيم.
وقال تعالى (قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ). وقال تعالى (أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). وقال تعالى (وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ). • وهما من أعظم المخلوقات، بل جعلها الله من أدلة البعث، حيث أن من قدر على خلق الأعظم فهو على غيره من باب أحرى. قال تعالى (لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ). وقال تعالى (أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ). وقال تعالى (أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
الخطبة الأولى: الحمد لله الذي رفع السماوات بغير عماد، ووضع الأرض وهيأها للعباد، وجعلها مقرهم أحياء وأمواتا، فمنها خلقهم، وفيها يعيدهم، ومنها يخرجهم تارة أخرى يوم المعاد. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولا ند ولا مضاد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أفضل العباد، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان، وسلم تسليما. أما بعد: أيها الناس: اتقوا الله وأطيعوه، وصدقوا بما أخبركم به واعتقدوه، وارفضوا ما خالف كتابه وسنة نبيه من أقوال الناس، وردوه؛ لأن ما خالف الكتاب والسنة فهو باطل، زور وبهتان، وما وافق الكتاب والسنة فهو حق ثابت لقيام الحجة والبرهان. واعلموا: أن الله -سبحانه- لم يشهد أحدا خلق السماوات والأرض، فلا علم عند أحد في ذلك إلا ما جاء عن طريق الوحي: ( مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا)[الكهف: 51]. فكل من تكلم عن خلق السماوات والأرض من أي مادة هو؟ وكيف وقع؟ ومتى وقع؟ كل من تكلم بذلك من غير طريق الوحي، فإنما يتكلم عن أمر نظري، وقياس ظني، قد يصيب وقد يخطئ، وقد يرفض وقد يغير، إذ ليس أحد من البشر شاهد كيف خلق السماوات والأرض، هذه هي الحقيقة الثابتة.
انتهى. ومما يؤيد ذلك أيضًا ما رواه الحاكم والبيهقي بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير قال: جاء رجل إلى ابن عباس رضي الله عنهما فقال: رأيت أشياء تختلف علي في القرآن. قال: هات ما اختلف عليك من ذلك. فقال: أسمع الله تعالى يقول: (قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ) حتى بلغ (طائعين). فبدأ بخلق الأرض في هذه الآية قبل خلق السماوات، ثم قال سبحانه في الآية الأخرى: (أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا)[النازعـات:27]، ثم قال: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا)[النازعـات:30]. فبدأ جل شأنه بخلق السماء قبل خلق الأرض. فقال ابن عباس رضي الله عنهما: أما خلق الأرض في يومين فإن الأرض خلقت قبل السماء، وكانت السماء دخاناً فسواهنَّ سبع سماوات في يومين بعد خلق الأرض، وأما قوله تعالى: (وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا) يقول: جعل فيها جبلاً وجعل فيها نهرًا، وجعل فيها شجرًا، وجعل فيها بحورًا. فدل هذا على وجود خلقين: خلق الأرض ابتداء، وخلق ما فيها من الجبال والأنهار. والله أعلم.
أيها الناس: أفبعد هذا يمكن لمؤمن: أن يقول: إن السماوات هي المجرات، أو هي الغلاف الجوي للأرض؟ أو يقول: إن ما نشاهده فضاء لا نهاية له؟ إن من يقول ذلك، فهو إما جاهل بوحي الله، وإما مكذب به، مستكبر عنه، مشاق لله ورسوله: ( وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ)[الأنفال: 13]. ( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا)[النساء: 115]. إن إنكار السماوات أو التكذيب بها، أو بأنها ذات بناء وإحكام؛ تكذيب لله، وكفر به، سواء قالها قائل، أو صدق من يقولها. أما الأرض، فإنها سبع أرضين في ظاهر كلام الله -تعالى-، وصريح سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، يقول الله -تعالى-: ( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ)[الطلاق: 12]. وهذه المثلية تقتضي المساواة في كل ما تمكن فيه الأرض مثل السماوات في العدد. قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " اللهم رب السماوات السبع وما أظللن، والأرضين السبع وما أقللن "[رواه النسائي]. والأرض مثل السماوات في التطابق، فإذا كانت السماوات سبعا طباقا، فكذلك الأرض مثلهن، يقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " من أخذ شبرا من الأرض ظلما فإنه يطوقه يوم القيامة من سبع أرضين "(البخاري (3026) مسلم (1610) الترمذي (1418) أحمد (1/190) الدارمي (2606)).