الأمر الثاني: إذا لم يدل دليل على أنه خاص بالنبي عليه الصلاة والسلام فالأصل في ذلك التأسي، وقد ذكر المؤلف رحمه الله في حكم هذا التأسي ثلاثة أقوال، قال: (وإن لم يدل لا يخصص به؛ لأن الله تعالى يقول: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21]، فيحمل على الوجوب عند بعض أصحابنا، ومن أصحابنا من قال: يحمل عن ندب، ومنهم من قال: يتوقف عنه)، فذكر المؤلف رحمه الله ثلاثة أقوال إذا لم يدل دليل على التخصيص: القول الأول: أنه يجب؛ عملاً بالأحوط. القول الثاني: أنه محمول على الندب؛ لرجحان الفعل على الترك، وكذلك أيضاً أن هذا الفعل الذي فعله النبي عليه الصلاة والسلام يتطرق إليه الاحتمال والأصل براءة الذمة، فلا يصار إلى الوجوب، وإنما يكتفى بالندب؛ لأن الأصل هو التأسي بالنبي عليه الصلاة والسلام. القول الثالث الذي ذكره المؤلف رحمه الله: التوقف؛ لعدم معرفة المراد ولتعارض الأدلة. وأرجح الأقوال في ذلك أنه يحمل على الندب، وأن الفعل المجرد عن القرائن إذا لم يدل على الوجوب فإنه يحمل على الندب، وهذا أقرب الأقوال، ومن أمثلته حديث عائشة رضي الله تعالى عنها ( أن النبي عليه الصلاة والسلام كان إذا دخل بيته يستاك، وإذا استيقظ من النوم أيضاً يستاك عليه الصلاة والسلام)، فالأدلة عليه كثيرة، وأرجح الأقوال في ذلك أنه للندب؛ لأن مجرد الفعل هذا لا يسوقه إلى الإيجاب، ولا يقال: بالتوقف؛ لأن الأصل هو التأسي بالنبي عليه الصلاة والسلام، وقد قال الله عز وجل: لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ [الأحزاب:21].
ومثال بيان المندوب: قول الله عز وجل: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، فهذا أمر -اتخاذ مقام إبراهيم مصلى- وبينه النبي عليه الصلاة والسلام؛ لأنه أتى المقام وقرأ قوله تعالى: وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى [البقرة:125]، فصلى ركعتين خلف المقام. القسم الخامس: ترك النبي عليه الصلاة والسلام للفعل، فنقول: بأن ترك النبي عليه الصلاة والسلام للفعل ينقسم إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: أن يترك الفعل؛ لعدم وجود المقتضي له، وهذا كتركه عليه الصلاة والسلام قتال مانعي الزكاة لعدم وجود المقتضي لذلك في عهده عليه الصلاة والسلام، فهذا نقول: بأنه ليس سنة، بل إذا وجد المقتضي كان فعل ما تركه هو السنة. القسم الثاني: أن يترك الفعل -مع وجود المقتضي له- لسبب من الأسباب كقيام مانع من الموانع، وهذا من أمثلته ترك النبي عليه الصلاة والسلام جماعة التراويح، فقد وجد المقتضي وهو دخول شهر رمضان، لكن تركه النبي عليه الصلاة والسلام لسبب خشية الفرضية. القسم الثالث: أن يترك الفعل مع وجود المقتضي وانتفاء المانع، فنقول هنا: ترك النبي عليه الصلاة والسلام هو السنة، وهذا له أمثلة كثيرة، و شيخ الإسلام أيضاً يعلل به، ومن أمثلته السواك عند دخول المسجد هل يشرع أو لا يشرع؟ فالمقتضي هو دخول المسجد، وانتفى المانع وهو عدم وجود مانع يمنع من السواك، ومع ذلك لم يفعله النبي عليه الصلاة والسلام، فنقول: بأن تركه هو السنة، ومثال ذلك أيضاً الأذان للعيدين أو المناداة لصلاة العيدين، كما ذكر الحنابلة لا ينادى لصلاة العيدين، فقد وجد المقتضي -وهو وجود الصلاة- وانتفى المانع ومع ذلك لم يفعله النبي عليه الصلاة والسلام، فنقول: بأن الترك هو سنة النبي عليه الصلاة والسلام.
القسم الثالث: ما فعله النبي عليه الصلاة والسلام على سبيل العادة، وهذا كلبسه الإزار والرداء، والعمامة، وركوبه الخيل، ونحو ذلك، فهذا النوع أيضاً لا يقال: بأنه يتأسى بالنبي عليه الصلاة والسلام به، بل التأسي بالنبي عليه الصلاة والسلام هو موافقة العادة؛ فالنبي عليه الصلاة والسلام، إنما فعل ذلك موافقةً لأهل بلده، ولم يغير النبي عليه الصلاة والسلام اللباس الذي كان يلبسه قبل النبوة، وإنما اللباس ورد في الشريعة له بعض الأحوال وبعض الهيئات، ولذلك ما كان من قبيل العادات فإنه لا يتأسى بالنبي عليه الصلاة والسلام، بل المشروع أن يوافق الإنسان أهل بلده. والقاعدة في ذلك: أن كل شيء قدر أن النبي عليه الصلاة والسلام وافق أهل بلده في ذلك الزمن وهو من قبيل العادات، ثم خالف أهل بلده فإنه يتأسى به، أما إذا فعله موافقةً لأهل بلده فالأسوة باتباع أهل البلد. القسم الرابع: ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم بياناً لمجمل، فهذا له حكم المجمل، فإن كان واجباً فيأخذ حكم الوجوب، وإذا كان مندوباً فإنه يأخذ حكم الندب: مثال الواجب: قول الله عز وجل: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ [المائدة:6]، فهذا أمر، وبينه النبي عليه الصلاة والسلام بمسحه جميع رأسه، فهذا بيان للواجب وهو مسح الرأس.
واللهم صلّ صلاة كاملة وسلّم سلاماً تاماً على سيدنا محمد النبي الأميّ الذي تنحل به العقد، وتنفرج به الكرب. وتقضى به الحوائج، وتنال به الرغائب وحسن الخواتم، ويستسقي الغمام، وعلى أله وصحبه عدد كل معلوم لله. اللهم صلي وسلم على سيدنا محمد وعلى أله، صلاة تكون لنا طريقاً لقربه، وتأكيداً لحبه، وباباً لجمعنا عليه. وهدية مقبولة بين يديه، وسلم وبارك كذلك أبداً، وارض عن أله وصحبه السعداء، واكسنا حلل الرضا. واللهم صلي وسلم على سيدنا محمد صلاة تهب لنا بها أكمل المراد وفوق المراد، في دار الدنيا ودار المعاد. وعلى أله وصحبه وبارك وسلم عدد ما علمت وزنة ما علمت وملء ما علمت. أفضل الصلوات على رسول الله اللهم صلي على سيدنا محمد صلاة تنجينا بها من جميع الأهوال والآفات، وتقضي بها جميع الحاجات. وتطهرنا بها من جميع السيئات، وترفعنا بها عندك أعلى الدرجات. وتبلغنا بها أقصى الغايات من جميع الخيرات في الحياة وبعد الممات، وعلى أله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. اللهم صلي على محمد عدد الرمل والحصى، في مستقر الأرضين شرقها وغربها وسهلها وجبالها. من يوم خلقت الدنيا إلى يوم القيامة، في كل يوم ألف مرة. اللهم صلّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد.