المسألة الثانية: في قوله: ( تلك الرسل) أقوال: أحدها: أن المراد منه: من تقدم ذكرهم من الأنبياء عليهم السلام في القرآن ، كإبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وموسى وغيرهم صلوات الله عليهم. والثاني: أن المراد منه من تقدم ذكرهم في هذه الآية كأشمويل وداود وطالوت على قول من يجعله نبيا. والثالث: وهو قول الأصم: تلك الرسل الذين أرسلهم الله لدفع الفساد ، الذين إليهم الإشارة بقوله تعالى: ( ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض).
ولما كان ذيل الآية متعرضا لمسألة القتال مرتبطا بها والآيات المتقدمة على الآية أيضا راجعة إلى القتال بالأمر به والاقتصاص فيه لم يكن مناص من كون هذه القطعة من الكلام أعني قوله تعالى: {تلك الرسل فضلنا} إلى قوله: {بروح القدس} مقدمة لتبيين ما في ذيل الآية من قوله: {ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم} إلى قوله تعالى: {ولكن الله يفعل ما يريد}. وعلى هذا فصدر الآية لبيان أن مقام الرسالة على اشتراكه بين الرسل عليهم السلام مقام تنمو فيه الخيرات والبركات، وتنبع فيه الكمال والسعادة ودرجات القربى والزلفى كالتكليم الإلهي وإيتاء البينات والتأييد بروح القدس، وهذا المقام على ما فيه من الخير والكمال لم يوجب ارتفاع القتال لاستناده إلى اختلاف الناس أنفسهم. وبعبارة أخرى محصل معنى الآية أن الرسالة على ما هي عليه من الفضيلة مقام تنمو فيه الخيرات كلما انعطفت إلى جانب منه وجدت فضلا جديدا، وكلما ملت إلى نحو من أنحائه ألفيت غضا طريا، وهذا المقام على ما فيه من البهاء والسناء والإتيان بالآيات البينات لايتم به رفع الاختلاف بين الناس بالكفر والإيمان، فإن هذا الاختلاف إنما يستند إلى أنفسهم، فهم أنفسهم أوجدوا هذا الاختلاف كما قال تعالى في موضع آخر: {إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم} [آل عمران: 19].
قال القرطبي: قوله تعالى: {وَلَوْ شَاءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم} أي من بعد الرسل. قيل: الضمير لموسى وعيسى، والاثنان جمع. إسلام ويب - تفسير السعدي - تفسير سورة البقرة - تفسير قوله تعالى تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم- الجزء رقم1. وقيل: من بعد جميع الرسل، وهو ظاهر اللفظ. وقيل: إن القتال إنما وقع من الذين جاءوا بعدهم وليس كذلك المعنى، بل المراد ما اقتتل الناس بعد كل نبيّ، وهذا كما تقول: اشتريت خيلًا ثم بعتها، فجاز لك هذه العبارة وأنت إنما اشتريت فرسًا وبعته ثم آخر وبعته، ثم آخر وبعته، وكذلك هذه النوازل إنما اختلف الناس بعد كل نبيّ فمنهم من آمن ومنهم من كفر بغيًا وحسدًا وعلى حطام الدنيا، وذلك كله بقضاء وقدر وإرادة من الله تعالى، ولو شاء خلاف ذلك لكان ولكنه المستأثر بِسرّ الحكمة في ذلك الفعل لما يريد
ثم إن قوله -تبارك وتعالى: وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ هذا مُطلق فيشمل ذلك الدرجات العلمية، وكذلك يشمل الدرجات الحسية في منازلهم في السماوات ومنازلهم في الجنات، فالنبي ﷺ ذكر في ما أمر به أمته أن يسألوا له الوسيلة والفضيلة، وأخبر أنها منزلة لا تنبغي إلا لواحد وكان ﷺ يرجو أن يكون ذلك الواحد، فبلغه الله أعلى المراتب، وفي ليلة المعراج بلغه أيضًا سدرة المنتهى. كذلك أيضًا في قوله -تبارك وتعالى- بعده: وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ ، الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام- آتاهم الله البينات وأيدهم بجبريل ولكن وصِف عيسى على سبيل الخصوص بهذين الوصفين ربما والله أعلم ردًا على اليهود الذين أنكروا نبوته ورسالته والآيات التي أعطاها الله له، وهذا الإنكار حصل مع جميع الرسل -عليهم الصلاة والسلام، ولكن لما كانت تلك الأمة أعني اليهود حاضرة في وقت التنزيل وهم ألد الأعداء لهذا الدين ولرسوله الكريم -عليه الصلاة والسلام- فلا جرم جاءت هذه الردود عليهم صراحة وكذلك أيضًا من غير تصريح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مجموع فتاوى و رسائل الشيخ محمد صالح العثيمين المجلد الأول - باب الرسل. محمد بن صالح العثيمين كان رحمه الله عضواً في هيئة كبار العلماء وأستاذا بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية 19 -1 36, 459
وهذا إعلام بأن بعض الرسل أفضل من بعض على وجه الإجمال وعدم تعيين الفاضل من المفضول; ذلك أن كل فريق اشتركوا في صفة خير لا يخلون من أن يكون بعضهم أفضل من بعض بما للبعض من صفات كمال زائدة على الصفة المشتركة بينهم. وفي تمييز صفات التفاضل غموض ، وتطرق لتوقع الخطأ وعروض ، وليس ذلك بسهل على العقول المعرضة للغفلة والخطأ ، فإذا كان التفضيل قد أنبأ به رب الجميع ومن إليه التفضيل ، فليس من قدر الناس أن يتصدروا لوضع الرسل في مراتبهم ، وحسبهم الوقوف عند ما ينبئهم الله في كتابه أو على لسان رسوله. وهذا مورد الحديث الصحيح لا تفضلوا بين الأنبياء يعني به النهي عن التفضيل التفصيلي ، بخلاف التفضيل على سبيل الإجمال ، كما نقول: الرسل أفضل من الأنبياء الذين ليسوا رسلا. وقد ثبت أن محمدا - صلى الله عليه وسلم - أفضل الرسل لما تظاهر من آيات تفضيله وتفضيل الدين الذي جاء به وتفضيل الكتاب الذي أنزل عليه. وهي متقارنة الدلالة تنصيصا وظهورا ، إلا أن كثرتها تحصل اليقين بمجموع معانيها عملا بقاعدة: كثرة الظواهر تفيد القطع ، وأعظمها آية وإذ أخذ الله ميثاق النبيئين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه الآية.
القول الثاني: أن المراد بهذه الآية محمد عليه السلام، لأنه هو المفضل على الكل، وإنما قال: {وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ درجات} على سبيل التنبيه والرمز كمن فعل فعلًا عظيمًا فيقال له: من فعل هذا فيقول أحدكم أو بعضكم ويريد به نفسه، ويكون ذلك أفخم من التصريح به، وسئل الحطيئة عن أشعر الناس، فذكر زهيرًا والنابغة، ثم قال: ولو شئت لذكرت الثالث أراد نفسه، ولو قال: ولو شئت لذكرت نفسي لم يبق فيه فخامة. وقال الفخر: في تفسيره أقوال: الأول: قال الحسن: القدس هو الله تعالى، وروحه جبريل عليه السلام، والإضافة للتشريف، والمعنى أعناه بجبريل عليه السلام في أول أمره وفي وسطه وفي آخره، أما في أول الأمر فلقوله: {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا} [التحريم: 12] وأما في وسطه فلأن جبريل عليه السلام علمه العلوم، وحفظه من الأعداء، وأما في آخر الأمر فحين أرادت اليهود قتله أعانه جبريل عليه السلام ورفعه إلى السماء والذي يدل على أن روح القدس جبريل عليه السلام قوله تعالى: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس} [النحل: 102]. والقول الثاني: وهو المنقول عن ابن عباس أن روح القدس هو الاسم الذي كان يحيي به عيسى عليه السلام الموتى. والقول الثالث: وهو قول أبي مسلم: أن روح القدس الذي أيد به يجوز أن يكون الروح الطاهرة التي نفخها الله تعالى فيه، وأبانه بها عن غيره ممن خلق من اجتماع نطفتي الذكر والأنثى.