(فأبى أكثرُ الناسِ إلّا كفوراً)، قال الله: (ولو شئْنا لبعثْنا في كلِّ قريةٍ نذيراً)، أرسلَ اللهُ الرُّسلَ في بلادٍ مختلفةٍ، منهم من عرفْناه بقصصِ القرآن ومنهم من لم يقصّهُ الله علينا، وآخر الرُّسل وخاتم النبيين محمّد المبعوثِ بأمِّ القرى، فبعثَ أفضلَ الرُّسلِ في أفضلِ البلادِ. تفسير ألم تر إلى ربك كيف مد الظل ولو شاء لجعله ساكنا ثم [ الفرقان: 45]. (ولو شئْنا لبعثْنا في كلِّ قريةٍ نذيراً، فلا تطعِ الكافرين وجاهدْهم به جهاداً كبيراً)، نعم يا محمّد. - القارئ: بسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على نبيِّنا محمَّدٍ وعلى آلِهِ وصحبِهِ أجمعين، قالَ الشيخُ عبدُ الرَّحمنِ السعديُّ-رحمَهُ اللهُ تعالى- في تفسيرِ قولِ اللهِ تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ) الآيات. أي: ألمْ تشاهدْ ببصرِكَ وبصيرتِكَ كمالَ قدرةِ ربِّكَ وسعةِ رحمتِهِ، أنَّهُ مَدَّ على العبادِ الظِّلَّ وذلكَ قبلَ طلوعِ الشمسِ {ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ} أي: على الظِّلَّ {دَلِيلاً} فلولا وجودُ الشمسِ لما عُرِفَ الظِّلُّ فإنَّ الضِّدَّ يُعرَفُ بضدِّهِ. {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا} فكلَّما ارتفعَتِ الشمسُ تقلَّصَ الظِّلُّ شيئاً فشيئاً، حتَّى يذهبَ بالكُلِّيِّةِ فتوالى الظلُّ والشَّمسُ على الخلقِ - الشيخ: تتوالى يعني تارةً تكون الشمس يعني عامّة على وجه الأرض وتارةّ الظلّ، وهما يتعاقبان كتعاقُبِ الليل والنهار، كتعاقُبِ الليل والنهار، حتّى إنَّ بعض المفسِّرين قال إنَّ المراد بالظلّ الليل.
والحق سبحانه يلفتنا إلى هذه الظاهرة، لا لأنها مجرد ظاهرة كونية نراها وتعجب منها، إنما لأننا سنستغلها وننتفع بها في أشياء كثيرة. فقدماء المصريين أقاموا المسلات ليضبطوا بها الزمن عن طريق الظل، وصنع العرب المسلمون المزْولة لضبط الوقت مع حركة الشمس، ونرى الفلاح البسيط الآن ينظر إلى ظل شيء ويقول لك: الساعة الآن كذا؛ لأنه تعودَّ أن يقيس الوقت بالظل، مع أن مثل هذا التقدير يكون غير دقيق؛ لأن للشمس مطالعَ متعددة على مرِّ أيام العام؛ لذلك في أحد معابد الفراعنة معبد به 365 طاقة، تدخل الشمس كل يوم واحدة منها. القرآن الكريم - تفسير القرطبي - تفسير سورة الفرقان - الآية 45. إذن: أفادنا الظل في المسلات والمزاول، ومنها انتقل المسلمون إلى عمل الساعات، وأولها الساعة الدقاقة التي كانت تعمل بالماء، وقد أهدوْا شارلمان ملك فرنسا واحدة منها فقال: إن فيها شيطانًا، هكذا كان المسلمون الأوائل. وقوله تعالى: {ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلًا} [الفرقان: 45] أي: أن الضوء هو الذي يدل على الظلِّ. {ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46)}. الحق تبارك وتعالى يُبيِّن الحركة البطيئة للظل فيقول: {قَبْضًا يَسِيرًا} [الفرقان: 46] لا تدركه أنت أبدًا؛ لأن في كل لحظة من لحظات الزمن حركة فلا يخلو الوقت مهما قَلَّ من الحركة، لكن ليس لديك المقياس الذي تدرك به بُطْءَ هذه الحركة.
ظلٌ هو ظل العصمة، وظل هو ظل الرحمة؛ فالعصمة للأنبياء عليهم السلام ثم للأولياء، والرحمة للمؤمنين، ثم في الدنيا لكافة الخلائق أجمعين. ويقال قوله للنبي صلى الله عليه وسلم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} ثم قوله: {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} سترًا لما كان كاشفه به أولًا، إجراءً للسُّنَّةِ في إخفاء الحال عن الرقيب. قال لموسى عليه السلام: {لَن تَرَانِى} [الأعراف: 143] وقال لنبينا عليه السلام: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} وشتان ما هما! ويقال أحيا قلبه بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} إلى أن قال: {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} فجعل استقلاله بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} إلى أن سمع ذكر الظل. ويقا أحياه بقوله: {أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ} ثم أفناه بقوله: {كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ} وكذا سُنَّتُه مع عباده؛ يُردِّدُهم بين إِفناءٍ وإبقاء
جمال القرآن.. "ألم ترى ربك كيف مد الظل" بلاغة وصف غياب الشمس جاء القرآن الكريم على النبى محمد صلى الله عليه وسلم، قبل أكثر من 1400 عام، هدى للناس وبيان من الفرقان، فكان لسماعه فعل السحر، من عذوبة الكلمات ومعانيها التى أسرت قلوب المؤمنين، فكل آية من آيات الذكر الحكيم تحمل تعبيرات جمالية وصورا بلاغية رائعة. وفى القرآن الكريم، نجد العديد من الآيات التى حملت تصويرا بالغًا، وتجسيد فنى بليغ، ومفردات لغوية عذبة، تجعلك تستمتع بتلاوة كلمات الله التامات على نبيه، ووحيه الأخير إلى الأمة، ومن تلك الآيات الجمالية التى جاءت فى القرآن: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَىٰ رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا﴾ (سورة الفرقان الآية:45). ألم تر كيف مدَّ الله الظل من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس؟ ولو شاء لجعله ثابتًا مستقرًا لا تزيله الشمس، ثم جعلنا الشمس علامة يُستَدَلُّ بأحوالها على أحواله، ثم تَقَلَّصَ الظل يسيرًا يسيرًا، فكلما ازداد ارتفاع الشمس ازداد نقصانه، وذلك من الأدلة على قدرة الله وعظمته، وأنه وحده المستحق للعبادة دون سواه. وبحسب تفسير البغوي "معالم التنزيل": قوله عز وجل: ﴿ أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ ﴾ معناه: ألم تر إلى مدِّ ربِّك الظلَّ، وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، جعله ممدودًا؛ لأنه ظل لا شمس معه، كما قال في ظل الجنة: ﴿ وَظِلٍّ مَمْدُودٍ ﴾ [الواقعة: 30]، لم يكن معه شمسٌ، ﴿ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ﴾؛ أي: دائمًا ثابتًا لا يزول ولا تذهبه الشمس.