وليس مبالغةً أن نعترف أن الأمين العيسى ألّف بين قلوب أتباع الأديان، وهو يضع بين أيديهم المشتركات الإنسانية التي جاء به خاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام. يُعلي العيسى ويُرّقي من مكانة الخطاب الوعظي إثر أزمنة غلبت فيها على المنابر أصوات لا تنتمي لصحيح الدِّين، وإنما تخضع لأدلجات مشوهة لأعظم وأخلد ما نباهي به من سماحة الإسلام ورحمته وحبه وسلامته من الغش في القول والفعل. لا ريب أن هذا الطرح الحضاري، من الشيخ العيسى، سيعيد الكثير من الأمور الجانحة إلى نصابها، وسيعزز من متانة الجذور الأولى للهدي المحمدي، وسيلجم الكثير من الجافين والغالين والمعتدين؛ بأدبه في نطقه وسمته ما يعيدنا جميعاً إلى فقه المراجعات لتنقية دواخلنا مما علِق بها من غثّ أصوات نُزعت منها الرحمة، وسيلتقي أتباع جميع الأديان على منهج عالم آتاه الله الحكمة، ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيراً كثيراً.
وروى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل إليكم على رسول الله صل الله عليه وسلم أحدث، تقرؤونه محضاً لم يشب، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتاب، وقالوا: هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً؟ ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم. وحدّث معاوية رهطاً من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار، فقال: إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب [ أخرجه البخاري موقوفاً على معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، قال ابن كثير: معناه أنه يقع منه الكذب من غير قصد، لأنه يحدث عن صحف هو يحسن الظن فيها وفيها أشياء موضوعة ومكذوب].
وقوله تعالى: { إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} أي حادوا عن وجه الحق، وعموا عن واضح المحجة، وعاندوا وكابروا، فحينئذ ينتقل من الجدال إلى الجلاد، ويقاتلون بما يمنعهم ويردعهم، قال جابر: أمرنا من خالف كتاب الله أن نضربه بالسيف، قال مجاهد: { إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ} يعني أهل الحرب ومن امتنع منهم من أداء الجزية، وقوله تعالى: { وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُم} يعني إذا أخبروا بما لا نعلم صدقه ولا كذبه فهذا لا نقدم على تكذيبه لأنه قد يكون حقا ولا تصديقه فلعله أن يكون باطلاً، ولكن نؤمن به إيماناً مجملاً. أخرج البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كان أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإسلام، فقال رسول الله صل الله عليه وسلم: « لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم، { وَقُولُوا آَمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} ». وروى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا، إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل، فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلا وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال.
رَوَاهُ أبو داود.
[٦] مفهوم الموعظة الحسنة الدعوة بالموعظة الحسنة: تعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي يكون مقترناً تارةً بالترغيب للمدعوّ وتارةً بالترهيب، ويمكن أن يتمّ ذلك بعدّة أساليب منها: [٧] أن يذكر الداعي للمدعو ما تشتمل عليه الأوامر الشرعية من المصالح، ويعدّد له ما تشتمل عليه النواهي الشرعية من المضارّ. أن يُبيِّن الداعي للمدعو إكرام الله -تعالى- لمن يقوم بدينه، وإهانة من لم يقم به. أن يذكر الداعي للمدعو ما أعدّ الله للطائعين من الأجر في الدنيا والآخرة ، وما أعدّه للذين يقومون بمعصيته -سبحانه- من العقاب في الدنيا والآخرة.
أما بعدُ: فأوصيكم عبادَ اللهِ ونَفسي بتقوى اللهِ، قالَ -سبحانَه وتَعالى-: ( وَأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ)[البقرة:237].