وقد ورد سبب آخر عن عطاء بن يسار و ابن عباس أيضاً: أن هذه الآية نزلت بالمدينة في شأن عوف بن مالك الأشجعي كان ذا أهل وولد، فكان إذا أراد الغزو بكوا إليه أهله ورققوه وقالوا: إلى من تدعنا؟ فيرق لهم فيقعد عن الغزو، وشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية في شأنه. مناسبة قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدواً لكم فاحذروهم... ) لما قبلها والمناسبة بين هذه الآية والآية التي قبلها: أن كلتيهما تسلية على ما أصاب المؤمنين من غم من معاملة أعدائهم إياهم، ومن انحراف بعض أزواجهم وأولادهم عليهم، وإذا كانت السورة كلها مكية كما هو قول الضحاك ، كانت الآية ابتداء إقبال على تخصيص المؤمنين بالخطاب بعد قضاء حق الغرض الذي ابتدئت به السورة على عادة القرآن في تعقيب الأغراض بأضدادها من ترغيب أو ترهيب، وثناء أو ملام أو نحو ذلك ليوفى الطرفان حقهما.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (14) يقول تعالى مخبرا عن الأزواج والأولاد: إن منهم من هو عدو الزوج والوالد ، بمعنى: أنه يلتهى به عن العمل الصالح ، كقوله: ( يا أيها الذين آمنوا لا تلهكم أموالكم ولا أولادكم عن ذكر الله ومن يفعل ذلك فأولئك هم الخاسرون) [. : 9]; ولهذا قال ها هنا: ( فاحذروهم) قال ابن زيد: يعني على دينكم. وقال مجاهد: ( إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم) قال: يحمل الرجل على قطيعة الرحم أو معصية ربه ، فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه. وقال ابن أبي حاتم حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن خلف العسقلاني ، حدثنا الفريابي ، حدثنا إسرائيل ، حدثنا سماك بن حرب ، عن عكرمة ، عن ابن عباس - وسأله رجل عن هذه الآية: ( يا أيها الذين آمنوا إن من أزواجكم وأولادكم عدوا لكم فاحذروهم) - قال: فهؤلاء رجال أسلموا من مكة فأرادوا أن يأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم ، فلما أتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأوا الناس قد فقهوا في الدين ، فهموا أن يعاقبوهم ، فأنزل الله هذه الآية: ( وإن تعفوا وتصفحوا وتغفروا فإن الله غفور رحيم) وكذا رواه الترمذي ، عن محمد بن يحيى ، عن الفريابي - وهو محمد بن يوسف - به ، وقال: حسن صحيح.
هداية الآيات الكريمات: 1- بَيان أن مِن بعض الزوجات والأولاد عدوًّا؛ فعلى المؤمن أن يَحذر ذلك؛ ليَسلم من شرِّهم. 2- الترغيب في العفْو والصَّفح والمَغفرة على مَن أساء أو ظلَم. 3- التحذير مِن فتنة المال والولد، ووجوب التيقظ حتى لا يَهلك المرء بولدِه وماله. 4- وجوب تقوى الله بفِعل الواجبات وترْك المنهيات في حدود الطاقة البشريَّة. 5- الترغيب في الإنفاق في سبيلِ اللهِ، والتحذير من الشحِّ؛ فإنه داء خطير [7]. [1] قال القرطبي رحمه الله تعالى: قال ابن عباس رضي الله عنهما: نزلَتْ في عوف بن مالك الأشجعي بالمدينة النبوية، شَكا إلى النبي جفاء أهله وولده، وعن عطاء بن يسار قال: نزلَت سورة التغابن كلها جُملة واحدة إلا هؤلاء الآيات: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ... ﴾. [2] مِن: للتبعيض؛ إذ ما كل من له زوجة وولد كانوا له عدوًّا. [3] الآية عامة في الرجال والنساء؛ فكما يكون للرجل مِن امرأته وولده عدو، يكون للمرأة من زوجها وولدها عدو، ووجب الحذر على المؤمنين، ويكون الحذر على وجهين؛ إما لضرر في البدن، وإما لضرر في الدِّين. [4] هل هذه الآية مخصصة لآية آل عمران: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ ﴾ [آل عمران: 102]؟ هذا هو الظاهر؛ إذ مِن غير الممكن أن يتقي الله حق تقاته؛ أي: تقواه الحقة، فلو أن العبد ذاب ذوبانًا من خشية الله ما اتَّقى الله حقَّ تقاته.
سورة التغابن مدنية، وآياتها ثماني عشرة.
بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد الرحمة المهداة والنعمة المسداة والسراج المنير، وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أسأل الله سبحانه أن يجعلني وإياكم من المقبولين. ومع النداء السابع والثمانين في الآية الرابعة عشرة من سورة التغابن؛ قول ربنا جل جلاله: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن:14]. سبب نزول الآية وسبب نزول هذه الآية: ما أخرجه الترمذي عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن رجلاً سأله عن هذه الآية، فقال: هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم، فأبى عليهم أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، فلما أتوا النبي صلى الله عليه وسلم -أي:بعد مدة- وجاء معهم أزواجهم وأولادهم ورأوا الناس قد فقهوا في الدين. أي: سبقوهم بالفقه في الدين لتأخر هؤلاء عن الهجرة، فهموا أن يعاقبوهم على ما تسببوا به من سبق الناس لهم إلى الفقه في الدين، فأنزل الله عز وجل هذه الآية حتى قوله: وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التغابن:14]، وهذا الذي اقتصر عليه الواحدي رحمه الله في أسباب النزول، ومقتضاه: أن الآية مدنية.