الضرر المراد في الحديث إنما هو الضر الدنيوي من مرض، أو فاقة، أو محنة من عدو، أو نحو ذلك من مشاق الدنيا. الآجال مقدرة لا يزداد فيها، ولا ينقص منها، فما الذي يؤثر تمني الموت في ذلك؟ فتمني الموت لضر دنيوي عبث لا فائدة فيه، لما فيه من مراغمة المقدور، وعدم الرضا به مع ما سبق من كون المؤمن لا يزيده عمره إلا خيراً. قوله -صلَّ الله عليه وسلم- (فإن كان لا بد متمنيا…) ليس المراد بهذا الأمر استحباب الدعاء به لهذا، بل تركه أفضل من الدعاء به، فأنه رتب الأمر به على كون المتمني لا بد أن يقع منه صورة تمن، مع نهيه أولاً عن ذلك. 4. لا يتمنين أحدكم الموت من ضُـرِّ أصابه. الضر الديني: هو خوف الفتنة في الدين، فالظاهر أنه لا بأس معه بالدعاء بالموت، وتمنيه، ويدل لذلك قوله في حديث أبي هريرة: (لا تقوم الساعة حتى يمر الرجل بقبر الرجل فيقول يا ليتني مكانه، وليس به الدين إلا البلاء). 11 5. إن تمني الموت والدعاء به انقطاع الأعمال، ففي الحياة زيادة الأجور بزيادة الأعمال، ولو لم يكن إلا استمرار الإيمان فأي عمل أعظم منه، وقد قال النبي -صلَّ الله عليه وسلم- لما سُئل عن أفضل الأعمال قال: (إيمان بالله) فبدأ به، فإن قيل: قد يسلب الإيمان بالله، والعياذ بالله. قلنا: إن سبق له في علم الله خاتمة السوء فلا بد من وقوع ذلك طال عمره أو قصر، وإن سبقت له السعادة فزيادة عمره زيادة في حسناته، ورفع في درجاته كثرت أو قلت.
[عن حميد]. هو ابن أبي حميد الطويل البصري ، وهو ثقة، أخرج حديثه أصحاب الكتب الستة. عن أنس بن مالك رضي الله عنه صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخادمه الذي قد خدمه عشر سنوات منذ قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة إلى أن توفاه الله عز وجل وهو يخدمه عشر سنوات رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وهو أحد السبعة المعروفين بكثرة الحديث عن رسول الله عليه الصلاة والسلام، والذين مر ذكرهم آنفاً عند ذكر أبي هريرة رضي الله عنه، فإن أنس بن مالك واحداً منهم، وخدمته للرسول صلى الله عليه وسلم وملازمته إياه للخدمة، كانت من أسباب كثرة حديثه رضي الله تعالى عنه وأرضاه، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
فأقول: إذا كان النبي عليه الصلاة والسلام نهى أن يتمنى الإنسان الموت للضر الذي نزل به، فإن أعظم من ذلك أن يقتل الإنسان نفسه، ويبادر الله بنفسه، نسأل الله العافية. ولكن الرسول عليه الصلاة والسلام لما نهى عن شيء، كان من عادته إذا كان له بديل من المباح أن يذكر بديله من المباح، كما هي طريقة القرآن؛ قال الله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا ﴾ [البقرة: 104]؛ فلما نهى الله عن كلمة «راعنا»، بيَّن لنا الكلمة المباحة، قال: ﴿ وَقُولُوا انْظُرْنَا ﴾. ولَمَّا جيء للنبي عليه الصلاة والسلام بتمر جيد، استنكره، وقال: ما هذا؟ «أَكُلُّ تَمْرِ خَيْبَرَ هَكَذَا؟»، قالوا: لا، والله يا رسول الله، إنا لنشتري الصاع من هذا بالصاعين، والصاعين بالثلاثة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لَا تَفْعَلْ، لَكِنْ بِعِ الْجَمْعَ بِالدَّرَاهِمِ، ثُمَّ ابْتَعْ بِالدَّرَاهِمِ جَنِيبًا [2] »؛ يعني: تمرًا طيبًا، فلما منعه بيَّن له الوجه المباح. هنا قال: «لَا يَتَمَنَّيَنَّ أَحَدُكُمُ الْمَوتَ لِضُرٍّ أَصَابَهُ، فَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعِلًا، فَلْيَقُلْ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مَا كَانَتِ الْحَيَاةُ خَيرًا لِي، وَتَوفَّنِي إِذَا كَانَتِ الْوَفَاةُ خَيْرًا لِي».
* فرغت مؤخرًا من قراءة كتاب نفيس أبدعه يراعُ معالي الشيخ عبد الله العلي النعيم، أمين مدينة الرياض السابق، بعنوان (بتوقيعي.. حكايات من بقايا السيرة)، وقد كَرَّس معاليه الكتاب للحديث تفصيلاً عن تجربته الثمينة في إدارة أمانة مدينة الرياض عبر عشرين عامًا بدأت في عهد خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز -حفظه الله- وقت أن كان -حفظه الله- أميرًا لمدينة الرياض. كما تحدث الكتاب عن موضوعات أخرى ذات صلة، كقضية شركة الغاز الأهلية التي كادت تشرف على الأفول لولا عون الله ثم الجهود الموفقة التي بُذلت في ذلك الحين أسهمت في إنقاذ الشركة من الإفلاس. *** * ويقع الكتاب في مائتين وأربع وخمسين صفحة من القطع المتوسط. جريدة الرياض | أفراح النعيم والمطلق. وقد مَهَّدَ الشيخ النعيم للكتاب بالحديث عن بدايات حياته في مدينة عنيزة في منطقة القصيم، بدْءًا بميلاده في الخامس من شهر شعبان، عام 1350هـ. * وفي سن الخامسة من عمره، التحق بمدرسة المرحوم عبدالعزيز الصالح الدامغ، ثم انتقل منها إلى مدرسة أسّسها ابن عنيزة الشهير، صالح بن ناصر الصالح فاستقر بها، وكانت هذه المدرسة أفضل تنظيمًا وأثرى تعليمًا. *** * كان طموح الشيخ عبد الله النعيم آنئذٍ مُنصبًا على التعليم الجامعي، بنيّة الوصول إلى أعلى مستوياته.
وبعد أن تخرج في الجامعة أكمل دراسة الماجستير دون أن يعوقه الخلاف بين الرياض والقاهرة لقصر المدة المتبقية عليه، وحين عاد إلى المملكة درّس في الجامعة، واستثمر وقته الزائد بتعلّم اللغة الإنجليزية في دورات يقيمها معهد الإدارة العامة بعد أن نصحه بها صديقه الوزير د. مطلب النفيسة نائب رئيس المعهد الإدارة آنذاك، وصرف د. النعيم بعض الوقت في القراءة حتى كوّن مكتبة كبيرة، ومن طلابه في الجامعة حينذاك الوزيران د. إبراهيم العساف، ود. جبارة الصريصري. عقب ذلك جاءته الفرصة لنيل درجة الدكتوراة في أمريكا بيد أنه رفض مفضلًا مصر عليها حتى يكون قريبًا من أولاده الدارسين هناك، ويرجع لشقته الكبيرة التي استأجرها منذ أيام الجامعة، وتراخى في دراسته لمدة خمس سنوات كي يقضي أكبر وقت مع أنجاله الذين انضموا للبعثة الحكومية، وأصبحوا خمسة يدرسون على حساب الدولة، وبعد أن نال الشهادة حجّ عن مشرفه المخلص المتفاني إكرامًا له، علمًا أن علاقاته بالمصريين الذين تعامل معهم منذ حضوره الأول للقاهرة مستمرة إلى اليوم إن معهم أو مع أولادهم من بعدهم باستثناء سعاد التي اختفت واختفى خبرها فما بانت. له في مصر حكايات ومواقف، منها ما كان مع الجزار وبائع البقالة، وصلته بالبواب، واختفاء النعال من شقته، وتعرضه للسرقة واسترجاعه للمسروق وإن ندم على صنيعه فيما بعد، ومنها العلاقة بين الدولار والبسكوت، وولادة ابنته الوحيدة هدى التي تعلّق بها وتعلقت به حتى اضطر لاصطحابها معه للمطار؛ فصافحت الطفلة الملك فيصل والرئيس السادات، وفازت في مسابقة رسوم بمصر وهي لم ترسمها!
فقال الشيخ بتلقائية: لأنها تشرب سمن! وحين استوضح منه الملك عن معنى جوابه الغريب، أخبره أبو علي بأن الماء الذي تُسقى منه تلك الشجرة الديوانية عذب، والمواقف كثيرة تحجب حرارة الشمس وتجلب الظلّ وتبرد الجو، فلا وجه للمقارنة بينها وبين أرصفة تقع في عراء لاهب، وتُسقى من مياه الصرف الصحي، وحينها علّق الملك على جواب النعيم الصريح بقوله: ما فيك حيلة! ومما جاء في السيرة أن معالي د. عبدالعزيز الخويطر رفض تصحيح نتيجة الامتحان الجامعي للنعيم مع أنه مستحق للدرجة الكاملة؛ وذلك دفعًا لأيّ شك قد يُثار عن الجامعة، ومنها أخبار انتقاء مواقع ثلاث جامعات في الرياض وما جرى فيها من مواقف إدارية ورؤى مستقبلية، وفيها نماذج من أعمال بناته التطوعية التي تُحمد لهنّ ولمن رباهنّ، ولا يخفي توقيع أبي علي وفاءه لوالديه ولزوجته الراحلة ولأعمامه وخؤولته، ويرسم قلمه صورة بهيّة عن علاقاته الودودة مع أسرته الممتدة، ومع شقيقه وأجيالهم من الأبناء والأحفاد، والله ينعم عليهم بالمودة، ويديم بينهم التماسك والألفة. ولا تفوت الطرفة على معاليه؛ ويبدو لي أنها تجري على لسانه طريّة دونما تكلّف ولذلك تزداد حلاوتها، فمن طرائف السيرة أنه أجبر طلاب معهد المعلمين على دخول الامتحان بعد أن انهال عليهم ضربًا بالعقال، وأصبح مديرًا لإدارة التعليم مع أنه يومها لا يحمل حتى الشهادة الابتدائية، واكتشف كسل أحد موظفيه فسحبه من أذنه؛ ونزل به من ثلاثة طوابق إلى البوابة الخارجية، ورماه خارج المبنى وهي أغرب طريقة في اتخاذ قرار فصل من العمل يجمع ألمًا معنويًا وحسيًا!