رب أرني كيف تحيي الموتى؟ لم يكن إبراهيم الخليل شاكًا حين سأل ربه كيف يحيى الموتى؛ لأن السؤال بكيف يكون عن شيء متقرر، لا عن شيء مشكوك فيه، ولو كان شاكًا لقال: هل تحيي الموتى؟ ويدل على ذلك جوابه لسؤال ربه: أولم تؤمن؟ حيث قال: بلى، ثم ذكر سبب سؤاله بقوله: ولكن ليطمئن قلبي، أي ليسكن ويهدأ باليقين الذي يستيقنه، وليزاداد يقينًا، وإيمانًا إلى إيمانه، فهو قد تيقن ذلك بخبر الله تعالى، ولكنه أحب أن يشاهده عيانًا؛ ليحصل له مرتبة عين اليقين، ولتنقطع عنه وساوس الشيطان. إن الشك -الذي هو تردد بين طرفين لا مزية لأحدهما- كفر، ولا يجتمع مع الإيمان، وهذا الشك ليس هو المقصود في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((نحن أحق بالشك من إبراهيم، إذ قال: {رب أرني كيف تحيى الموتى؟ قال: أو لم تؤمن.
(الطير)، اسم جمع كركب، وقيل هو جمع طائر. (صرهنّ)، أمر من صاره يصيره أو يصوره بمعنى قطعه أو أماله، فيه إعلال بالحذف لأنه أجوف فحذفت عينه، وزنه فلهنّ. (سعيا)، مصدر سماعيّ لفعل سعى يسعى باب فتح، وزنه فعل بفتح فسكون. واذ قال ابراهيم ربي ارني كيف تحيي الموتى. البلاغة: 1- في هذه الآية إيجاز بالحذف، إذ حكى سبحانه أوامره، وحذف تتمة القصة، ولم يعترض لامتثال إبراهيم عليه السلام لها، لأن ذلك مدرك بالبداهة.. إعراب الآية رقم (261): {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَاللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261)}.
إن القرآن لم يقل لنا هل أجرى سيدنا إبراهيم هذه العملية أم لا؟ والحق يقول مخاطبا إبراهيم بخطوات التجربة: { ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً} وكان المفروض أن يقول: يأتينك طيرانا. ربي ارني كيف تحيي الموتى. فكيف تسعى الطيور؟ إن الطير يطير في السماء وفي الجو. لكن الحق أراد بذلك ألا يدع أي مجال لاختلاط الأمر فقال: " سعيا " أي أن الطير سيأتي أمامه سائرا، لقد نقل الحق الأمر من الطيران إلى السعي كي يتأكد منها سيدنا إبراهيم، إذن فلكي تتأكد يا إبراهيم ويزداد اطمئنانك جئنا بها من طيور مختلفة وأنت الذي قطعتها، وأنت الذي جعلت على كل جبل جزءا، ثم أنت الذي دعوت الطير فجاءتك سعيا. وهنا ملحظية في طلاقة القدرة، وفي الفرق بين القدرة الواجبة لواجب الوجود، وهو الحق سبحانه وتعالى، والقدرة الممنوحة من واجب الوجود وهو الله ـ سبحانه ـ لمنكر واجب الوجود وهو الإنسان، هذا له قدرة، وذاك له قدرة؛ إن قدرة الله هي قدرة واجبة، وقدرة الإنسان هي قدرة ممكنة، وقدرة الله لا ينزعها منه أحد، وقدرة الإنسان ينزعها الله منه؛ فالإنسان من البشر، والبشر تتفاوت قدراتهم؛ فحين تكون لأحدهم قدرة فهناك آخر لا قدرة له، أي عاجز. ويستطيع القادر من البشر أن يعدي أثر قدرته إلى العاجز؛ فقد يحمل القادر كرسيا ليجلس عليه من لا يقدر على حمله.
إذن فالاطمئنان جاء لمراد في كيفية مخصوصة تخرجه من متاهات كيفيات مقصورة ومتخيلة [1]. "أرني كيف تحيي الموتى".. هل شك إبراهيم في قدرة الله على إحياء الموتى؟ (الشعراوي يجيب). واستنادا إلى ما سبق فقد كان سؤال إبراهيم - عليه السلام - عن كيفية إحياء الموتى، وكيفية جمع الأجزاء لا عن الإحياء نفسه، فإنه ثابت ومقرر، ويدل على ذلك وقوع السؤال بكيف التي تسأل عن الهيئة والكيفية، والإنسان يؤمن بما لا يعرف كيفيته، وفي فطرته الرغبة في استكناه أشياء هو مؤمن بها، ولكنه يود لو يقف على أسرارها وخفاياها، وطلب الخليل - عليه السلام - رؤية كيفية إحياء الموتى من هذا القبيل، فهو طلب للطمأنينة فيما تنزع إليه نفسه من معرفة خفايا أسرار الربوبية، لا طلب للطمأنينة في أصل الإيمان بالبعث، الذي عرفه بالوحي والبرهان، دون المشاهدة والعيان [2]. فالمعرفة التفصيلية أقوى وأرسخ من المعرفة الإيمانية المفضية إلى [3] التردد بين الكيفيات المتعددة مع الطمأنينة إلى القدرة على الإحياء. يقول الشيخ محمد عبده في قوله تعالى لإبراهيم عليه السلام:) أولم تؤمن ( - وهو أعلم بإيمانه ويقينه - إرشاد إلى ما ينبغي للإنسان أن يقف عنده، ويكتفي به في هذا المقام، فلا يتعداه إلى ما ليس من شأنه، كأنه يقول: إن الإيمان بهذا السر الإلهي، والتسليم فيه لخبر الوحي، ودلالته، وامتثاله هو منتهى ما يطلب من البشر، فلو كان وراء الإيمان والتسليم مطلع لناظر لبينه الله تعالى لك، وفي هذا الإرشاد لخليل الرحمن - عليه السلام - تأديب للمؤمنين كافة، ومنع لهم عن التفكر في كيفية التكوين وإشغال العقول بما استأثر الله تعالى به، فيما لا يليق بهم البحث عنه [4].
لكن قدرة الحق تختلف. كأن الحق سبحانه وتعالى يقول: أنا أعدي من قدرتي إلى من لا يقدر فيقدر، أنا أقول للضعيف: كن قادراً، فيكون. وهذا ما نفهمه من قوله سبحانه لإبراهيم: { ثُمَّ ٱدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً}. إن إبراهيم كواحد من البشر عاجز عن كيفية الإحياء، ولكن الحق يعطيه القدرة على أن ينادي الطير، فيأتي الطير سعيا. تفسير الميزان - السيد الطباطبائي - ج ٢ - الصفحة ٣٨٠. إن الحق يعطي القدرة لإبراهيم أن يدعو الطير فيأتي الطير سعيا. وهذا هو الفرق بين القدرة الواجبة، وبين القدرة الممكنة.
والمصدر المؤوّل (أنّ اللّه عزيز) في محلّ نصب سدّ مسدّ مفعولي اعلم. جملة: (قال إبراهيم) في محلّ جرّ مضاف إليه. وجملة: (النداء وصلتها) في محلّ نصب مقول القول. وجملة: (أرني) لا محلّ لها جواب النداء (استئنافيّة). وجملة: (تحيي.. ) في محلّ نصب مفعول به ثان لفعل أر. وجملة: (قال... (الثانية) لا محلّ لها استئنافيّة. وجملة: (أو لم تؤمن؟) في محلّ نصب معطوفة على جملة مقدّرة هي مقول القول. أي: أتسأل ولم تؤمن؟ وجملة: (قال.. (الثالثة) لا محلّ لها استئناف بيانيّ. والجملة المقدّرة: (بلى آمنت) في محلّ نصب مقول القول. وجملة: (يطمئنّ قلبي) لا محلّ لها صلة الموصول الحرفيّ المقدر أن. (الرابعة) لا محلّ لها استئنافيّة. وجملة: (خذ أربعة... ) في محلّ جزم جواب شرط مقدّر، أي: إن أردت ذلك فخذ.. وجملة الشرط المقدّرة في محلّ نصب مقول القول. وجملة: (صرهنّ) إليك في محلّ جزم معطوفة على جملة خذ أربعة. وجملة: (اجعل) في محلّ جزم معطوفة على جملة صرهنّ. وجملة: (ادعهنّ) في محلّ جزم معطوفة على جملة اجعل. وجملة: (اعلم) لا محلّ لها استئنافيّة. الصرف: (أرني)، فيه إعلال بالحذف أصله أرئيني، حذفت الياء للبناء فصار أرئني، ثمّ نقلت حركة الهمزة إلى الراء وحذفت للتخفيف فصار أرني، وزنه أفني محذوف منه عين الكلمة ولأمها الهمزة والياء (انظر الآية 128 من هذه السورة).