وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما أتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون.
ولا عذر لأحد في ذلك ، لأن علم الله غير معروف عندنا وإنما ينكشف لنا بما يظهر في الحادثات. والأمة: الجماعة العظيمة الذين دينهم ومعتقدهم واحد ، هذا بحسب اصطلاح الشريعة. وأصل الأمة في كلام العرب: القوم الكثيرون الذين يرجعون إلى نسب واحد ويتكلمون بلسان واحد ، أي لو شاء لخلقكم على تقدير واحد ، كما خلق أنواع الحيوان غير قابلة للزيادة ولا للتطور من أنفسها. ومعنى ليبلوكم في ما آتاكم هو ما أشرنا إليه من خلق الاستعداد ونحوه. والبلاء: الخبرة. والمراد هنا ليظهر أثر ذلك للناس ، والمراد لازم المعنى على طريق الكناية ، كقول إياس بن قبيصة الطائي: وأقبلت والخطي يخطر بيننـا لأعلم من جبانها من شجاعها لم يرد لأعلم فقط ولكن أراد ليظهر لي وللناس. ومعناه أن الله وكل اختيار طرق الخير وأضدادها إلى عقول الناس وكسبهم حكمة منه تعالى ليتسابق الناس إلى إعمال مواهبهم العقلية فتظهر آثار العلم ويزداد أهل العلم علما وتقام الأدلة على الاعتقاد الصحيح. لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا | د. محمد العريفي - YouTube. وكل ذلك يظهر ما أودعه الله في جبلة البشر من الصلاحية للخير والإرشاد على حسب الاستعداد ، وذلك من الاختبار. ولذلك قال ليبلوكم في ما آتاكم ، أي في جميع ما آتاكم من العقل والنظر.
عانت مجتمعاتنا لزمن طويل من وجود تيارات تعصبية متشددة، تدعي احتكار الحقيقة الدينية، وتمارس وصايتها على الناس، وتسعى لإلغاء وإقصاء من خالفها. وتنطلق هذه التوجهات من سوء فهم للدين، أو سوء استغلال لعنوانه من أجل الهيمنة والتسلط على الآخرين. وقد عرقلت هذه التوجهات مسيرة التنمية في مجتمعاتنا، وكرّست حالة التخلف، بالتحفظ تجاه كل جديد، ومخالفة أي تطوير، والتشكيك في أي انفتاح على معطيات العلم وتجارب الحياة. فقد حرّموا التعليم، خاصة تعليم البنات، وقاوموا أي مشاركة للمرأة في مجالات الحياة العامة، وحرّموا التصوير والابتعاث للدراسة في الخارج، ووسائل الإعلام كالتلفزيون وكل ألوان الفن والترفيه، بل حتى بعض وسائل المواصلات كالدراجات الهوائية. ما تفسير قوله تعالى لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا - العلامة صالح الفوزان حفظه الله - YouTube. وفي غفلة من الزمن تغلغلت هذه التوجهات في مختلف المواقع، وامتلكت النفوذ والتأثير. وأسست لحالة الانقسام المجتمعي برفضها الاعتراف بالتنوع الديني والمذهبي والفكري، واتهامها سائر مكونات المجتمع بالكفر والشرك والابتداع والضلال. وسعت إلى حرمان الوطن من الاستفادة من طاقات وكفاءات بعض أبنائه، بالتشكيك في دينهم وولائهم، حيث كان هؤلاء المتعصبون يصنفون الناس حسب مسطرتهم، ويفصلّون الوطن على مقاسهم، فأنتج ذلك ردّات فعل سلبية في بعض أوساط تلك المكونات الاجتماعية، دفعتها للانكفاء والانغلاق، والشعور بالغبن والحرمان، مما أعطى الفرصة للمتربصين والمغرضين الأجانب أن يخترقوا أمن مجتمعاتنا ويثيروا فيها الفتن والاضطرابات.
يدل على هذا المعنى: أن الله - سبحانه وتعالى -- ذكر في سياق الآيات الكريمة السابقة ما كتبه على بني إسرائيل في التوراة، وذكر بعد ذلك: أنه قفَّى بعيسى بن مريم على آثار الأنبياء قبله، وأنزل عليه الإنجيل، وأمر من بعثه إليهم بالعمل بما فيه، كما أمر بني إسرائيل بالعمل بالتوراة، ثم ذكر نبينا محمداً - صلى الله عليه وسلم - وأخبره أنه أنزل إليه الكتاب مصدقاً لما بين يديه من الكتاب، وأمره بالعمل بما فيه، والحكم بما أُنزل إليه، دون سائر الكتب غيره، وأعلمه أنه قد جعل له شريعة غير شرائع الأنبياء والأمم قبله، ممن قصَّ عليه قصصهم، وإذ كان دينه ودينهم واحداً.